القائمة الرئيسية

الصفحات

علم الاجرام PDF | ملخص رائع و شامل للتميز في الاختبارات

ملخص علم الاجرام

مقدمة عامة في علم الإجرام علاقة علم الاجرام بالعلوم الاخرى مقدمة علم الاجرام علم الاجرام pdf بالمغرب علم الاجرام السداسي الخامس pdf كتب علم الاجرام والعقاب pdf علم الاجرام pdf بالمغرب اساليب البحث في علم الاجرام علم الاجرام pdf بالمغرب مدخل لدراسة علم الاجرام مدخل الى علم الاجرام pdf علم الاجرام s5 علم الاجرام والعقاب pdf علم الاجرام في القانون المغربي pdf علم الاجرام سميرة اقرورو pdf علم الاجرام وعلم العقاب علم الاجرام ويكيبيديا يتميز علم الاجرام الذاتية والاستقلال القانون الجنائي و علم الاجرام علم الاجرام والعقاب جامعة البحرين لومبروزو وعلم الاجرام السياسة الجنائية وعلم الاجرام فرويد وعلم الاجرام كتاب علم الاجرام وعلم العقاب هوتون علم الاجرام ما هو علم الاجرام ما هو علم الاجرام والعقاب ما هو علم الاجرامي علم نفس الاجرام علم نفس الاجرام pdf نظريات علم الاجرام نظريات علم الاجرام pdf نشأة علم الاجرام نشاة علم الاجرام وتطوره نظرية علم الاجرام نظريات علم الاجرام والعقاب نظريات علم الاجرام والعقاب pdf علم الاجرام محمد احداف علم الاجرام محمد الازهر علم الاجرام ملخص علم الاجرام مقدمة ملخص محاضرات مادة علم الإجرام
علم الاجرام pdf

مقدمة علم الاجرام

موضوع السلوك الاجرامي يعالج عادة ضمن مادة علم الاجرام ونحن عندما نتحدث على السلوك الاجرامي وما يمثله من تعقيد في جذوره و من تباين في تجلياته بشكل غير مستقر فنحن غير ملزمين بنظريات علم الاجرام التي لا حصر لها وإنما غرضنا أن نربط السلوك الاجرامي ببعض النظريات العلمية التي تراعي العوامل الداخلية للمجرم، وإذا كان السلوك الاجرامي يمثل صراعا نفسيا اجتماعيا بل وحتى بيولوجيا أو عضويا لصاحبه فالوصول إلى استجلاء هذه العوامل المتشابكة والمتفاعلة فيما بينها يصبح أمرا صعبا، هذه الطبيعة المركبة للسلوك الإجرامي يجعلنا نركز على جذور السلوك الإجرامي على ضوء النظريات العلمية التي تساعد بحكم دقتها على الاقتراب من فهم السلوك الإجرامي وبالتالي رسم طرق الوقاية منه.

الفكر الإنساني كان دائما يطرح السؤال التالي ما هي الجريمة ولماذا نجرم؟ والحقيقة أنه لا توجد معادلة واحدة تفسر السلوك الاجرامي، بل تتعاضد عدة علوم إنسانية وتتدخل لتفسير الظاهرة، منتهجة في سبيل ذلك الكثير من التحاليل البيولوجية الأنثروبولوجيا والاجتماعية والعقلية والنفسية.

الدراسة الفلسفية المجردة وقفت عاجزة عن تفسير وإيجاد حلول للظاهرة الاجرامية لأنها كانت نظريات افتراضية نظرية فلسفية لا تقوم على أي أسس علمية لذلك فعلم الاجرام الحديث قام انطلاقا من قواعد علمية ثابتة معتمدا على الدراسة والتجربة والملاحظة واستخلاص النتائج.

هذا التحول نتج عنه علم الإجرام وقد أضيف إلى مواد القانون رغم المعارضة الشديدة من بعض المفكرين اعتبارا لكون علم الاجرام مادة غير قانونية لا يجب أن تدرس في كليات الحقوق فمحتواها خليط من دراسات تنتمي إلى علم الطب والنفس والاجتماع فهي دراسات لا علاقة لها بالعلوم القانونية.





رابط التحميل: هنا

لمن يريد التحميل ما عليه الا الضغط على رابط التحميل في اعلى هذه الجملة ولمن يود القراءة دون تحميل فالملخص بالكامل امام حضراتكم.

لكن رجل القانون لا يمكن أن يتحدث عن مادة يكون فيها له دور الرجل الثالث فأستاذ النفس سيتحدث أفضل من أستاذ القانون عن العوامل النفسية التي تؤدي الى ارتكاب الجريمة والطبيب سيتحدث أفضل من أستاذ القانون عن المشاكل العضوية والتكوينية المؤدية الى الجريمة.

هذا القول وإن كان فيه بعض الصحة ورجل القانون بحكم تكوينه القانوني قد لا يلم بكثير من الخصائص النفسية والطبية لكن لا ينبغي ذلك أن يحول بينه وبين دراسة أسباب الظاهرة الاجرامية حتى وإن كان دوره في ذلك دور الرجل الثاني أو الثالث، فرجل القانون يجب أن يكون ملما بعلم الإجرام حتى يستطيع تطبيق القاعدة القانونية تطبيقا سليما.

فرجل القانون الذي من المفترض أن يطبق القانون يجب أن يكون على دراية بأسباب الجريمة والعوامل التي تؤدي لها مطلعا على علم الاجرام مفرقا بين أنواع المجرمين حتى يستطيع تنزل القاعدة القانونية التنزيل الصحيح.


تعريف علم الاجرام

يرى بعض الفقهاء أن علم الإجرام هو العلم الذي يبحث في أسباب الجريمة و مكوناتها و سياقها و نتائجها ، ويرى رمسيس بهنام أنه العلم الذي يدرس الجريمة كحقيقة واقعية و يدرس أسبابها وبواعثها العضوية والبيئية من أجل علاجها والوقاية منها و هكذا يرى الدكتور عبد المنعم العوضي حيث يقول هو العلم الذي يهدف إلى الوقوف على أسباب الظاهرة الإجرامية تمهيدا لعلاجها.

نلاحظ أن أغلب التعريفات ربطت بين علم الاجرام ودراسة أسباب الجريمة والدوافع من ورائها ولم تتطرق إلى طبيعة الفعل الإجرامي هل هو ضار بالمجتمع أم نافع ؟ والواقع أنه مهما تعددت الاتجاهات في وضع تعريف للجريمة فإنها لن تصل إلى تحديد مفهوم الجريمة نظرا لطبيعتها المركبة واستحالة جمع عناصر ثابتة وشاملة تسمح بمثل هكذا تعريف ، ولأن العمل الإجرامي هو عمل نسبي لا يخضع لتقنيات التحديد بكيفية مطلقة فإن تعريف الجريمة يتأرجح بين المفهومين الاجتماعي والقانوني ، المفهوم القانوني مدرسته الاتجاه الأوروبي والمفهوم الاجتماعي منبته الاتجاه الأمريكي.

ولاعتبارات عملية يؤخذ بالاتجاه الأوروبي أي بالمفهوم القانوني الذي يساعد على تحديد الجريمة وهو لا يهتم كثيرا بكل الانحرافات الاجتماعية بقدر ما يهتم بتلك التي ينص عليها القانون الجنائي وهو ما ذهب إليه دو كريف حين قال " إني أمتنع عن إعطاء تعريف للجريمة إذ يتوجب علينا اعتماد التعريف القانوني المعطى لها لأن هذا التعريف ليس إلا وصفا دقيقا لواقع موجود قبل القانون وهذا الواقع هو الإجرام " لكن بصفة عامة التحديد القانوني للجريمة لا يزيل عنها صفتها الاجتماعية التي تظل ملازمة لها فهي لصيقة كل مجتمع بشري مما يجعلها ظاهرة اجتماعية .

لماذا يسلك الإنسان مسلكا إجراميا ؟

لماذا يسلك الإنسان مسلكا إجراميا ، ما هي الدوافع التي تدفع الإنسان لارتكاب سلوك اجرامي ؟ رغم وجود قواعد قانونية و مبادئ أخلاقية ، هل لأن الجريمة نتيجة حتمية في الإنسان أم أنها نتيجة ظروف اجتماعية أم نتيجة اختلالات وراثية ؟ أم هي اختلالات نفسية وعقلية معينة ؟ تؤثر على الإنسان فتشوه لديه القيم الأخلاقية ، تتعدد السبل لكن النتيجة واحدة ، الجريمة.

نشير أولا إلى أن الجريمة هي ظاهرة صحية ومفيدة لتطر الأخلاق والقانون في المجتمع ، و قد نتفق جميعنا في طرح السؤال حول لماذا يسلك الإنسان مسلكا إجراميا لكن الجواب يختلف باختلاف علماء الاجرام والفقه الجنائي ، فقد نجد الإجابة في عدة علوم كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الطب اعتبار أن علم الإجرام لا يقتصر على القوانين والحقوق في تفسير الظاهرة الاجرامية لأنه الجريمة لها علاقة بالإنسان وتكوينه النفسي والبيولوجي وهذا لا يمنع رجال القانون من دراسة الظاهرة الاجرامية وتأملها ولو اعتمادا على أبحاث أجيال سابقة والاستفادة من مجهوداتهم في بحثهم عن السلوك الاجرامي للإنسان ولأن علم النفس يهم الإنسان وسلوكه فهو يختلف عن باقي فروع القانون كالقانون المدني مثلا الذي لا يمس الانسان في تكوينه وسلوكه بل يمس ذمته المالية ، و لعل السبب الذي يدفع رجال القانون للبحث في علم الاجرام هو أنه يمس وينصب على دراسة السلوك الإجرامي للإنسان والعوامل التي تؤدي إلى قيامه بالسلوك الإجرامي.

القانون الجنائي العام والخاص يستنبطان من القاعدة القانونية بخلاف علم الاجرام الذي يستنبط انطلاقا من الأبحاث والدراسات والعلوم الإنسانية الأخرى ، ولا يجب على رجل القانون أن يغفل على معرفة هذه الأبحاث والدراسات والعلوم التي تفسر الظاهرة الاجرامية فالقاضي الجنائي مثلا لا يستطيع تطبيق القاعدة القانونية تطبيقا سليما دون الأخذ بعلم الاجرام ، أبرز مثال على ذلك هو تكييف الحكم حسب الحالة والتوفيق بين الحد الأدنى والحد الأقصى للعقوبة ، والأحداث لا يمكن معاملتهم كالبالغين ، فالمشرع عندما يريد تفريد العقوبة فهو لا يسوي بين الاسوياء وبين فاقدي الإرادة ، على عكس المدرسة الكلاسيكية التي تقول ب " جريمة واحدة عقوبة واحدة " ، فقديما كان القاضي مجرد آلة ينطق بالحكم فكان ناطقا باسم القانون والسلطة القضائية كانت تتبع أهواء السلطة التنفيذية والمجرم يأتي للمحكمة وهو لا يدري أي عقوبة ستنزل عليه ، بعد ذلك ظهر مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية أي " لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص " أي منع التعسف وإقرار مبدأ المساواة ، أي المساواة تعني جريمة واحدة عقوبة واحدة ولا تفريق بين الأشخاص ، لكن تبين بعد ذلك أن المساواة الحقيقية هي أن لكل جريمة عقوبات مختلفة فظهرت الحاجة الى إعطاء القاضي سلطة تقديرية في اختيار العقوبة المناسبة لكل جريمة طبقا لمعايير خطورة الفعل الإجرامي وخطورة السلوك الإجرامي ، القاضي كانت لديه سابقا عقوبة واحدة الان له عقوبات متراوحة بين الحد الأدنى والاقصى وقد يعطيه الحق في اختيار العقوبة المناسبة له ، فبعد ظهور علم الاجرام اصبح الحكم تتدخل فيه الحالة النفسية والبيولوجية والدوافع الخارجية التي تؤثر على الانسان و تدفعه لارتكاب الجريمة فظهرت قاعدة الحد الأدنى والحد الأقصى ، فالعقوبة تختلف من شخص لآخر ولو كانت نفس الجريمة انطلاقا من الفصل 141 من القانون الجنائي " للقاضي السلطة التقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها في نطاق الحد الأدنى والأقصى مراعيا خطورة الجريمة من ناحية وشخصية المجرم من ناحية أخرى "

تحديد الحكم حسب خطورة الفعل الاجرامي وخطورة الفاعل أي المجرم من بين المستجدات التي أتى بها علم الاجرام ، وله يرجع الفضل في إعطاء العقوبة المناسبة حسب الفرد ولو تشابهت الجريمة والقاضي لن يكون مصيبا في الحكم إذا لم يكن ملما بعلم الاجرام عارفا بالظروف الاجتماعية والنفسية والبيولوجية التي تؤثر على الجاني.

وهناك مثلا ما يسمى بالسجل العدلي فالشخص الذي له سجل عدلي نظيف تختلف عقوبته عن مرتكب الجريمة الذي سبق له أن ارتكب جريمة ، فتحضر ظروف التخفيف و تحضر ظروف التشديد.

خطورة الفعل و خطورة الفاعل مستجدات أتى بها علم الاجرام والقاضي لا يستطيع تطبيق القانون الجنائي تطبيقا سليما إن لم يكن ملما بالفاعل نفسيا واجتماعيا و مطلعا على سجله العدلي وتبقى خطورة الفعل وخطورة الفاعل من أبحاث علم الاجرام وغالبا لن يكون رجل القانون ملما بالتكوين العضوي والنفسي للجاني كما يكون ملما بذلك الطبيب وعالم النفس وعالم الاجتماع لكنه يستطيع أن يستفيد من كل ما يدلي به هؤلاء ويطابقها على الواقع ثم يكون له رأيه في النهاية ، فدراسة علم الإجرام من الأهمية بمكان لأنها تقدم بعدا ثالثا لرجل القانون.

أهمية علم الاجرام

نظرا لأن علم الاجرام يقوم به دارسون من فنون أخرى غير فن القانون فقد اعتبر الكثير أن علم الإجرام مادة غير قانونية ، فرجل الاجتماع مثلا يتحدث لنا عن أسباب الظاهرة الاجرامية ويفسرها أبلغ مما يفعل ذلك رجل القانون .

 

ولو أن هذا الأمر فيه بعض الصحة إلا أنه لا ينبغي أن يحول دون أن يخوض رجل القانون في دراسة أسباب الظاهرة الإجرامية حتى وان بدا له أن دوره فيها هو دور الرجل الثاني أو الثالث ، وذلك راجع إلى أن علم الإجرام مادته هو الإنسان وليس كالقانون المدني مثلا الذي ينصب على الذمة المالية ، لذلك كان لزاما على رجل القانون أن يحيط بعلم الاجرام لأنه يعطيه بعدا ثالثا لن يستطيع أن يطبق النص القانوني تطبيقا سليما إذا كان غافلا عن أسباب الظاهرة الإجرامية و أسبابها ودوافعها المختلفة.

فالمشرع عندما يضع النص الجنائي فهو يضع في اعتباره التطبيق المرن ، ويجعل العقوبة بين حد أدنى وحد أقصى ، والقاضي ملزم بتطبيق العقوبة المناسبة لكل حالة حسب خطورة الفعل و خطورة الفاعل ، فالقاضي الذي يحيط بالدوافع النفسية والاجتماعية للمجرم يستطيع أن يطبق النص الجنائي تطبيقا صائبا ، فعلم الاجرام هو الذي يعطي لرجل القانون هذا البعد الثالث رغم أن رجل القانون لا يملك خبرة الطبيب ولا عالم الاجتماع لكنه يستعين بهؤلاء ويطابق دراساتهم على الواقع ثم يكون له رأي في النهاية .

أهمية علم الاجرام العملية :

1. يساهم في وقاية المجتمع من الجريمة قبل وقوعها ، فعلم الإجرام يساهم في اكتشاف الخطورة الاجرامية في بعض الأشخاص مما يسهل مهمة رجل الأمن في اتخاذ الإجراء المناسب قبل وقوع الجريمة، كما أن دراسة الظروف الاجتماعية تؤدي إلى إجراءات عديدة للحد من هذه الظروف التي يمكن أن تؤدي إلى الجريمة ، وعلم الاجرام من العلوم التي تفيد المواطن فتجعله قادرا على تفهم غيره وبالتالي تفادي الضرر سواء من جانبه أو من غيره .

2. الأساس الذي يعتمد عليه في تفريد العقوبة تشريعا وقضاء وتنفيذا ، فدراسة الأسباب الفردية للجريمة تؤدي الى معرفة الأسباب التي أدت إلى السلوك الاجرامي وبالتالي الموالية بين الجريمة وبين العقوبة سواء عند وضع النص القانوني أو عند الحكم أو عند التنفيذ.

إن أهم ما قدمه علم الإجرام هو تفريد الجزاء أو العقوبة الجنائية ونتحدث هنا عن تفريد تشريعي و تفريد قضائي وتفريد تنفيذي ، والتفريد هو اختيار العقوبة الملائمة والمناسبة للمتهم والمشرع عندما يضع النص الجنائي يجب عليه أن يضع في اعتباره التطبيق المرن لهذا النص ولا يجب أن يساوي بين العاقل وفاقد العقل والإرادة ، بين الكامل الاهلية والقاصر ، لأن المسؤولية الجنائية تتدرج حسب المراحل العمرية للإنسان  فالشخص قبل سن 12 سنة يكون منعدم الأهلية و في سن 16 يكون ناقص الأهلية وفي سن 18 يكون مكتمل الأهلية ويتحمل مسؤولية تصرفاته ، بخلاف المدرسة الكلاسيكية التي لا تفرق بين قاصر وكامل الأهلية ، بين عاقل و مجنون ، فتقول جريمة واحدة عقوبة واحدة ، هكذا فرق المشرع المغربي مثلا بين مرتكب جريمة القتل مع سبق الإصرار والترصد وبين مرتكب نفس الجريمة تحت تأثير الاستفزاز ، و طبق تشديدا في الاولى نظرا لتواجد خطورة إجرامية وتخفيفا في الثانية لانعدام النية الإجرامية والخطورة الإجرامية ، لذلك عمل المشرع على تفريد الجزاء الجنائي ووضع جزاءات مختلفة لنفس الجريمة ، وعلم الإجرام هو من يساعد المشرع على هذه المغايرة و التفريد التشريعي للجزاءات الجنائية ، فعلم الإجرام إذن يقدم أهمية كبيرة للمشرع فيما يتعلق بالتفريد التشريعي للجزاءات الجنائية ، ولا يمكن للمشرع أن يعمل على إخراج نصوص جنائية فعالة دون الاستفادة من الأبحاث في علم الاجرام.

التمييز بين التفريد التشريعي والتفريد القضائي :

التفريد التشريعي يكون أثناء تشريع القوانين أو النصوص الجنائية أما التفريد القضائي فيكون عند تطبيق هذه القواعد القانونية ، التفريد التشريعي يقوم به المشرع مثلا عندما يشرع قوانين أو نصوص تفرق بين العقوبة الموجهة أو المطبقة على كامل الاهلية وناقص الاهلية و بين من لديه نية اجرامية وبين من ليس لديه نية اجرامية أو خطورة اجرامية ، فيقوم به عند سن القوانين فتكون هناك مغايرة واختلاف في تحديد العقوبة لنفس الجرم ، لكن التفريد القضائي يقوم به القاضي نفسه عند تطبيق النص القانوني الجنائي تحت معيار الحد الادنى والاقصى وحسب دراسته لنوع الجريمة والشخصية الاجرامية ، 

ففي القديم في فترة سميت بالفترة السوداء كان القاضي مثل الالة وقد سلبت منه السلطة القضائية فالسلطة التنفيذية هي من تصدر له الأحكام فينطق القاضي بالحكم حسب مكانة الجاني في المجتمع وحسب لونه وعرقه ولغته فيحكم عليه بما شاء وكيفما شاء حيث انعدمت قاعدة لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص ، بل وحتى تنفيذ الحكم كان يختلف من شخص لآخر ، لكن بعد الثورة على الاستبداد انتزعت السلطة القضائية من يد السلطة التنفيذية و طبقت قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وأصبح للمجتمع دور في تحديد العقوبة التي يجب أن يتقيد بها لكن تبين بعد ذلك أن هناك عقوبة جريمة واحدة عقوبة واحدة تخل بمبدأ المساواة ، فكيف يمكن أن تكون هناك عقوبة واحدة لجريمة واحدة في إطار نية إجرامية مختلفة ، فظهرت الحاجة إلى إعادة صياغة تلك المبادئ ، فظهر ما يسمى بمبدأ التفريد القضائي ، فأعطيت للقاضي صلاحيات جديدة وسلطة تقديرية محصورة بين الحد الادنى والاقصى ،

 ثم ظهر أن هذا لا يكفي فجاء ما يسمى بالنزول عن الحد الادنى فيمكن للقاضي النزول عن الحد الادنى للعقوبة إذا ظهر له أن العقوبة مبالغ فيها ، لكن يجب أن يكون هذا النزول معللا بأسباب يقبلها القانون ، فيكون الحكم على الشكل الآتي " نظرا للظروف الاجتماعية والنفسية قررت المحكمة منح المتهم ظروف التخفيف و نزول العقوبة " وفي بعض الاحيان ينطق القاضي بالعقوبة ويوقف تنفيذها " حكم سنة موقوف التنفيذ " ويمكن للقاضي مع المشروع الجديد أن يخاطب المتهم ويقول له " ما رأيك أن تقضي العقوبة حبسية أو تشتري عقوبتك ، كل يوم مدفوع الأجر 2000 درهم مثلا عن كل يوم ، أو ما يسمى بالغرامة اليومية لكن فقط في الجرائم البسيطة كالمخالفات أو الجنح أما الجنايات فلا يمكن ذلك وحتى الغرامة المالية تخضع لمبدأ التفريد فالغني يمكن أن يشتري عقوبته بسعر أكبر من الفقير ، وقد يحكم لا بالغرامة ولا بالحبس بل بالأشغال الشاقة ، فيمكن الحكم على طالب أو موظف مثلا ارتكب جريمة مثلا بأن يعمل خدمة أو عملا لفائدة مؤسسة دون أجر كعقوبة بديلة ، لأن الطالب لو أودعناه السجن ربما يتعلم فنونا أخرى للجريمة لم يكن يعرفها فمن الأحسن أن يعمل عملا لفائدة المجتمع يكون عقوبة له ، 

كل ذلك في إطار السلطات التقديرية التي منحت للقاضي التي وصلت إليها السياسة الجنائية المعاصرة التي رجعت إلى الأصل وهو النظام الإسلامي حيث أن القاضي في التشريع الإسلامي له سلطة تقديرية واسعة حسب ظروف الجاني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " أي من لهم قدر في المجتمع وشهد لهم بالصلاح إن زلت لهم قدم فالأحسن هو الستر والعفو وجبر عثرات الكرام ، حيث أن الإسلام يراعي الدوافع النفسية والاجتماعية التي دفعت الشخص إلى ارتكاب جريمة والحكم بالعفو بينما من يستحق العقوبة هو من ثبتت في حقه الخطورة الاجرامية ، وللقاضي في الإسلام الصلاحية في الحكم ابتداء من التوبيخ وانتهاء بالإعدام ، حسب الفعل الجرمي و خطورة الفاعل.

التفريد التنفيذي :

الجهة المكلفة بتنفيذ العقوبة تلجأ إلى التفريد التنفيذي مراعاة لشخص المحكوم عليه و ظروفه ، عند تصنيف المحكوم عليهم أو تحديد الأعمال التي يمكن أن يقوموا بها أو من يصدر له قرار العفو ومن يتمتع بالإفراج المشروط وماهية الرعاية اللاحقة لشخص المفرج عنه ، ومراعاة المجرم وظروفه شرط أساسي لنجاح الاجراء الذي تتخذه جهة التنفيذ ، السجن ظهر بمثابة مكان لتنفيذ العقوبة والانتقام والزجر والردع من أجل أن لا يعاود المجرم سلوكه الاجرامي ولإعطاء المجتمع رسالة مفادها بأن الشخص الذي يرتكب جريمة يستحق العقوبة و كل من حاول ارتكاب الجريمة فالسجن هو مكانه الطبيعي ، من أجل إعادة التأهيل والإصلاح والإدماج ، فالسجن بمثابة طبيب نفسي أو مستشفى للمجرم فالمجرم شخص مريض يحتاج إلى مستشفى وهو السجن ، فيدخله ليتكيف من جديد مع قيم المجتمع والتقاليد التي سلبت منه فيعاود تأهيله وجعله إنسانا صالحا ومصلحا في المجتمع ، هذا هو الوضع الحديث للسجون وعلم الاجرام له فضل كبير في تحويل أو تغيير الهدف السجني ، فعلم الاجرام وأبحاثه ساهمت بشكل كبير في خدمة المؤسسات السجنية عن طريق الفحص والتصنيف من قبل إدارة السجون ، فهي تفحصه نفسيا وعضويا ثم تصنفه فالنساء لديهم مؤسسات خاصة والأطفال كذلك والرجال أيضا والمعتقلين الاحتياطيين والمجانين ، ثم يتم التصنيف أيضا داخل كل صنف حسب درجة الخطورة والسن والعقل والجنس ، فعلم الإجرام هو المتدخل من أجل ضبط هذه التصنيفات والفحوصات .

أيضا ظهر في علم الإجرام بأن السجين إذا تم الحكم عليه ب 10 سنوات وانضبط حاله خلال 5 سنوات وتعلم حرفة جيدة يفرج عنه قاضي تطبيق العقوبات إفراجا شرطيا أو يعفو عنه بالمرة.

شاهد أيضا :

ملخص العقود المسماة PDF

ملخص المسطرة المدنية PDF

 ملخص المسطرة الجنائية PDF

ملخص القانون الدولي الخاص PDF

ملخص القانون البنكي PDF

ملخص صعوبات المقاولة PDF

ملخص الحقوق العينية PDF

ملخص التحفيظ العقاريPDF

ملخص قانون التأمين PDF

ملخص الملكية الفكرية PDF 

الاجرام ظاهرة اجتماعية كونية

أثبت كل الباحثين في علم الإجرام أن الجريمة تنبثق من المجتمع وتلازمه ، و هي ظاهرة طبيعية في كل مجتمع لذلك نعطيها صفة الكونية اي أنها لا تقتصر على مجتمع دون آخر ، فهي لا تستلزم زمانا أو مكانا محددا ، والظاهرة الاجرامية رغم كونيتها فإنها تخضع لترتيب زمني متسلسل ومتلاحق تعرفه كل المجتمعات ، ولإثبات كونية الظاهرة الاجرامية سنقف على الأوقات الثلاثة للجريمة ثم نقف على ترابط وتداخل هذه الأوقات التي لا غنى عنها لوجود الجريمة والسلوك الإجرامي يعرف ثلاثة مراحل لدراسته واستجلاء معناه .

المرحلة الاولى : وضع القواعد الجنائية ، حيث تصيغ الجماعة النمط الاجتماعي وتفرضه على أفرادها وتضع قواعد زاجرة في مواجهة كل من يخالفه ، هذا ونشير إلى أن النمط الاجتماعي يتغير باستمرار وبالتالي تتغير القوانين الجنائية ، والانسان في صراع داخل الجماعة وبالتالي كان خرق القاعدة القانونية أمرا واردا بقوة .

المرحلة الثانية : عدم احترام القاعدة القانونية ، قد يحدث انتهاك للقواعد الأساسية للسلوك الاجتماعي وهذا الانتهاك يعتبر إجراما يستوجب العقوبة .

المرحلة الثالثة : رد الفعل الاجتماعي ، ذلك أن المجتمع يحمي كيانه وطمأنينته فيلجأ إلى فرض السلوك الاجتماعي الذي يبغيه ، ويفرض عقوبات زجرية على كل مخالف ، و رد الفعل الاجتماعي الزجري هو مقابل للسلوك الإجرامي ، وهذا الحق في العقاب يملكه المجتمع وتبرره ضرورة الحفاظ على التضامن الاجتماعي وطمأنينة واستقرار المجتمع.

هذه الاوقات الثلاثة للجريمة لا يمكن استيعابها منفردة ، بل هي حلقة واحدة تعمل كل واحدة على خلق أخرى فلا تتصور جريمة بدون قاعدة سلوكية ولا رد فعل اجتماعي في غياب جريمة ، وهذا الترابط يزداد قوة كلما تقدم المجتمع في خلق وتطوير مبادئ سلوكية معتمدة لديه ومعاقب عليها.

فنلمس حلقية الجريمة و نلاحظ الاوقات الثلاثة للجريمة فالقاعدة الجنائية قابلة للخرق وهو ما يؤدي للعقاب ثم للتفكير في وضع قاعدة قانونية جديدة فنجد أنفسنا أمام دائرة حلقية .

نشأة علم الاجرام وتطوره

 

الجريمة ظاهرة طبيعية في المجتمع تلازمه خلال سيره وتطوره تقتضيها ضرورة الحياة المشتركة فيمكننا القول أن الجريمة لا توجد إذا انتفت العلاقة بين الافراد ، لذلك تاريخ علم الاجرام طويل منذ الإنسان البدائي الذي اعتبر الجريمة مخالفة لأوامر تمليها القبيلة والعشيرة ، أما الانسان اليوناني فاعتبر الانسان المجرم شقي أصابته لعنة الالهة و والجريمة قدر إلهي أما السفسطائيون فيعتبرون الإنسان المجرم مخفيا لضعفه يعوضه نظرا لطبيعته البشرية ذات المجموعة من الغرائز الحيوانية ، لكن سقراط آمن بالفعل البشري وقدرته على مقاومة الأهواء و الشهوات الحيوانية و ربط الفضيلة بالمعرفة واعتبر الانسان الجاهل وحده من يرتكب الجريمة ، أما أفلاطون فاعتبر الالهة غير مسؤولة عن خطإ الانسان والانسان المجرم لا يقوم بجرمه إلا لنقص في عقله أو عوامل خبيثة تتحكم فيه فلا تترك له حرية اختيار الفضيلة وهو يعتبره مريضا يحتاج إلى دواء والعقاب هو الدواء بل وعزله عن المجتمع حتى لا ينتشر مرضه ، وعلى العموم سادت فكرة الخير والشر بين الفلاسفة اليونان لكن المجرم لم تبدأ دراسته العلمية بالمعنى الصحيح إلا سنة 1876 مع الطبيب الإيطالي لومبروزو في كتابه "الانسان المجرم" وأستاذ القانون الجنائي الإيطالي كاروفالو صاحب كتاب علم الاجرام والايطالي الثالث انريكو فيري صاحب كتاب السوسيولوجيا الجنائية .

لومبروزو كان أستاذا للطب الشرعي والامراض العقلية قد اتاحت له مهنته و تعامله مع المجرمين والقتلة والمرضى العقليين حيث لاحظ عيوبا في تكوينهم الجسمي العضوي الذي اعتبره حصيلة الوراثة الاجرامية .

أما أنريكو فيري فقد اعتمد الخط العلمي الذي وضعه لومبروزو لكنه اختلف معه في اسباب الجريمة وأضاف إلى أسباب لومبروزو العامل الاجتماعي والطبيعي والجغرافي وقال بأن الجريمة نتيجة لتداخل عدة عوامل داخلية وخارجية في المجرم طبيعية واجتماعية و كان إدخال العامل الاجتماعي ثورة على القانون الجنائي .

أما كاروفالو فقد انتقد الاتجاه البيولوجي عند لومبروزو وابتعد تماما عن دراسة التكوين العضوي للمجرم ونادى بدراسة مضمون السلوك الإجرامي دراسة دقيقة حتى يمكن تقويم المجرم وإصلاحه ، وبعد تأسيس علم الاجرام من طرف هؤلاء الثلاثة تتابعت المحاولة العلمية الفلسفية لتفسير السلوك الإجرامي وتوالت الدراسات والكتب أهمها كتاب علم الجريمة للهولندي بونجور سنة 1905و كتاب التكوين الجرمي ل دي توليو سنة 1929 و كتاب مقدمة في علم الإجرام للبلجيكي دو غريف سنة   1949 و كتاب القيم علم الاجرام الفرنسي بينتيلي سنة 1963 ، إضافة إلى ذلك تتوالى الدراسات والنشرات والأبحاث المتعلقة بعلم الاجرام تصدر عن عدة مؤسسات دولية ووطنية ، كما أن مؤتمرات الأمم المتحدة حول الجريمة والوقاية منها أصبحت مرجعا أساسيا قانونيا وفقهيا تهتدي به الدول وتستفيد منه .

مفهوم علم الإجرام

علم الاجرام من العلوم التي يستحيل إيجاد تعريف محدد ومعين لها يعطي ماهية علم الاجرام ، وذلك راجع لاختلاف المدارس والأبحاث والباحثين الذين حاول كل واحد منهم على حدة أن يعطي تفسيرا دقيقا لهذا العلم ، مما ساهم في تعدد الآراء والانتقادات لكل مدرسة منهم ، فهم اجتهدوا انطلاقا من الفترة التي عاشوها ، فتنوعت الآراء وتعقدت النفسيات والاجابات والبحوث لكن الملاحظ أن أول جريمة ارتكبت من قبل قابيل ضد هابيل وقعت قبل ظهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والنفسية وغاب عنهم جميع الاضطرابات النفسية والعقلية والبيولوجية ، أيضا مع آدم و حواء توفرت لهم جنة الله في السماء ومع ذلك خرقوا القاعدة القانونية الإلهية و أكلوا من الشجرة ، فأخرجهما الله من الجنة عقابا لهما ، ومع ذلك جعل الله الاستغفار والله يحب التوابين ولو لم يذنب البشر لأتى الله بقوم يخطؤون ويستغفرون ، فالجريمة إذن متأصلة في الإنسان والذنب والخطأ من صفات البشر ، فهي ظاهرة طبيعية فيه ، و توجد في كل المجتمعات بلا استثناء وفي كل المستويات الاجتماعية لكن تبقى القاعدة " إنه من الصحي أن ترتكب الجرائم لكن يجب ألا يرتفع معدل الجريمة في مجتمع ما على سقف معين ، ولا يجب أن ينخفض على مستوى معين ، لأنه انخفاض غير طبيعي وهو أمر لا يفرح العدالة الجنائية بل ينذر بالأسوأ القادم .

 

علم الاجرام يستحيل معرفة مفهومه نظرا لحداثته ، فكيف يمكن للقاضي والمشرع والمؤسسة السجنية أن تعتمد على علم حديث لم ينضج بعد ولو يصل إلى مرحلة النضج العلمي ، لكننا ننسى أننا بصدد علم يدخل ضمن العلوم الانسانية وليس العلوم التطبيقية أو الطبيعية فلا يمكن بأي حال من الأحوال الوصول إلى خلاصات ثابتة ومطلقة .

ظهر علم الإجرام في القرن 19 على يد لومبروزو الذي استخدم الملاحظة والتجربة من أجل البحث عن اسباب الجريمة ليشعل بذلك ثورة علمية لم تهدأ نيرانها إلى اليوم ، فلأول مرة في تاريخ البشرية تم إخضاع الظاهرة الاجرامية للمنهج العلمي ، فاستخدم العلم لدراسة الظاهرة الاجرامية ، وما يحسب ل لومبروزو أنه كان من السباقين في هذا العلم نظرا لحداثة هذا العلم وتعدد نطاقاته وموضوعاته وارتباطه بالعلوم الاخرى .

لكننا سنقف حول اتجاهين لعلم الإجرام ، الاتجاه الأول موسع والثاني ضيق .

الاتجاه الموسع لعلم الاجرام :

بعض العلماء في علم الإجرام اشاروا على أنه يمكن اعطاء تفسير لعلم الإجرام دون استخدام فكرة الانحراف أي السلوك الاجتماعي المغاير للمجتمع سواء شكل هذا السلوك جريمة أو لا ، لأن الانحراف مفهوم أوسع وأشمل من مفهوم الجريمة ، فكل جريمة انحراف وليس كل انحراف جريمة فمحاولة الانتحار مثلا ليست جريمة في القانون الجنائي وهو لا يعاقب عليها لكنه يبقى سلوكا منحرفا ويدل على انحراف في سلوك الإنسان ، فقيام طالب بسلوك منحرف قد لا يعتبر جريمة لكن اذا ارتبط بنص جنائي كان جريمة ، وأن تكذب على صديقك ليس جريمة بل سلوك منحرف لكن الكذب أمام القاضي يعتبر شهادة زور وهو جريمة وليس مجرد سلوك منحرف ، والانحراف هو موضوع دراسة علم الاجرام الذي يقول أننا لا يجب أن نقف فقط على مفهوم الجريمة مفهوما قانونيا لكن يجب دراسة الانحراف سواء كان جريمة أو لم يكن جريمة ودراسة الانحراف يجب أن يكون بمفهومه الواسع والشامل ، لكن كانتقاد لهذه الفكرة إذا اهتم علم الإجرام بهذا النطاق الواسع من الانحراف و دراسة كل انحراف على حدة سيتوسع نطاق علم الاجرام فكل فرد لا بد أن ينحرف يوما ما لكن انحرافه ليس بالضرورة يؤدي إلى ارتكاب جريمة .

الانحراف هو فعل صحي لكن السلوك المنحرف هو الشيء غير الصحي .

الانحراف سلوك مضاد للمجتمع و السلوك اللااجتماعي مضاد لقيم وأخلاق المجتمع وكل سلوك مخالف لقيم المجتمع هو انحراف لكن ليس كل انحراف جريمة .

علم الإجرام حسب الاتجاه الموسع هو العلم الذي يهتم بدراسة الجريمة والانحراف معا ، بغية الوصول إلى أسبابه وطرق علاجه .

و قد أعطى تعريفا موسعا لعلم الاجرام " هو العلم الذي يهتم بدراسة السلوك اللاجتماعي بهدف الوصول الى أسبابه وسبل علاجه " ، نلاحظ أن مصطلح السلوك اللاجتماعي مصطلح فضفاض فلا نستطيع احصاءه فهو يتغير حسب الازمنة والمجتمعات ، فهو السلوك المنحرف المضاد للمجتمع دائما ، ويمكن القول أننا لا نستطيع الوصول الى اعطاء تفسير للظاهرة الاجرامية دون المرور عبر تفسير السلوك المنحرف ، انتشر هذا الرأي في الفقه الامريكي حيث قال إدوين أن علم الإجرام يجب أن يضم 3 فروع مترابطة هي علم الاجتماع القانوني و علم العقاب وعلم اسباب الجريمة هذا التوسع في تعريف علم الاجرام أمر لا مبرر له حيث أنه يؤدي الى ادخال علوم اخرى تحت جناح علم الاجرام مما يجعل من دراسة الظاهرة الاجرامية فكرة متشعبة لا تمكن باحثيها من التوصل الى نتائج محددة و دقيقة لأن الانحراف مفهوم واسع شاسع ويختلف من مجتمع لآخر ، بل وهناك من جعل علم الاجرام كل دراسة كل سلوك مضاد للمجتمع مما يفقد علم الاجرام ذاتيته واستقلاليته ويجعله علم سلوك فحسب ويخلطه بعلم الاجتماع .

والاتجاه الموسع يضم شقين كبيرين يوصل أحدهما الى الاخر ، الشق السببي التفسيري فيقول أن علم الإجرام هو علم من العلوم السببية التفسيرية فهو يهتم بدراسة أسباب و عوامل الجريمة ، ثم شق الوقاية والعلاج بمعنى أنه يهتم بالوسائل العلمية التي يجب أن تكون أنجع الطرق لمكافحة الجريمة .

الاتجاه الضيق لعلم الاجرام :

أغلب علماء الإجرام خاصة من يتبنون المفهوم القانوني لتفسير الجريمة يقفون على الشق الأول فقط أي الشق السببي التفسيري فيقولون بأن علم الاجرام يجب أن تتحد موضوعاته في البحث عن سبب الظاهرة الاجرامية ولماذا يسلك الإنسان مسلكا إجراميا دون دراسة سبل مواجهتها فأصحاب هذا الاتجاه يقولون بأن علم الإجرام يجب أن يهتم بدراسة وتفسير الظاهرة الاجرامية وأسبابها دون الشق الوقائي العلاجي لأن هذا الشق الثاني يعتبرونه ليس مهمة علم الإجرام بل مهمة علم السياسة الجنائية وعلم العقاب ، فمهمة علم الاجرام واحدة هي البحث لماذا يجرم الإنسان أما سبل الوقاية والعلاج فيجب أن تتكلف بها فروع قانونية و اجتماعية أخرى كعلم السياسة الجنائية والعقاب والوقاية العامة من الجريمة ، هذا الاتجاه يعرف علم الاجرام كالتالي وهو التعريف الأقرب للصواب " علم الاجرام هو العلم الذي يدرس ويبحث في الجريمة باعتبارها ظاهرة في حياة المجتمع وحياة الفرد من أجل الكشف عن أسبابها وتحديد العوامل الدافعة لارتكابها "

الاتجاه الضيق يضم شكلين ، علم الاجرام التطبيقي أو الاكلينيكي فهو ينظر الى الجريمة على أنها ظاهرة فردية تتنوع أسبابها وعواملها حسب كل حالة ، ثم علم الإجرام العام وهو يختص بدراسة علاقات السببية العامة التي تربط بين ظروف ووقائع معينة وبين حجم وشكل الظاهرة الاجرامية .

بقي ان نشير إلى أمر مهم وهو أن الجريمة بدأت دراستها منذ الأزل ، لكن في عهد لومبروزو انتقلت من ظاهرة مجردة إلى دراسة علمية ، وبما أن علم الاجرام أصبح دراسة علمية فلا بد من استعمال مناهج البحث العلمي وأساليب الدراسة العلمية.

علم الاجرام وعلاقته بالعلوم الأخرى

أولا : علاقة علم الاجرام بالعلوم الجنائية

هل يمكن أن نتحدث عن مفهوم واحد أم أن كل علم يحافظ على استقلاله

 

علاقة علم الاجرام بعلم الادلة الجنائية

 علم الادلة الجنائية له علاقة كبيرة بعلم الاجرام ، ذلك أن علم الادلة الجنائية هو علم الدعوى الجنائية ويهتم بالوسائل العلمية والفنية التي تساعد على معرفة المجرم والجريمة وظروف ارتكابها واعطاء درجة الخطورة بينما علم الاجرام يهتم بدراسة الجريمة كظاهرة اجتماعية انطلاقا من شخصية المجرم ومعرفة اسباب ودوافع ارتكاب الجريمة.

علاقة علم الاجرام بعلم العقاب

ايقوم علم العقاب على حق الدولة في العقاب و يهتم بنتائج و أهداف و وظائف العقوبة من ردع أو اصلاح أو إعادة تأهيل و إدماج في المجتمع وهو في كل هذا لا بد له من الاستعانة بعلم الاجرام ، أما علم الاجرام فيتخذ من تطبيق العقوبة أساسا لإجراء الدراسات المفيدة حول شخصية المجرم و معرفة أفضل للسلوك الإجرامي.

العلاقة بين علم الاجرام والقانون الجنائي

نورد هنا رأي فيري الذي يعتبر القانون الجنائي لا يمكن أن يكون مستقلا ولا فائدة منه خارج نطاق علم الاجرام ، بالنسبة إليه دراسة الجريمة من أجل حماية المجتمع لا يمكن أن يقوم بها القانون الجنائي وإنما يحققه علم الاجرام الذي يعمد إلى تحديد الجريمة تحديدا اجتماعيا يحافظ على الواقع الطبيعي للجريمة ويدرسها انطلاقا من مفهومها الاجتماعي وهو ما دعا فيري إلى إلغاء القانون الجنائي وتعويضه بعلم الاجرام لذلك يوصف فيري بأنه أعطى مفهوما امبرياليا لعلم الاجرام لكن الحقيقة أن علم الاجرام متميز عن القانون الجنائي ويختلف عنه اختلافا واضحا ، فالقانون الجنائي يعتبر ضابطا معياريا يضم المبادئ السلوكية العامة ويحددها في شكل جرائم ويضع لها عقوبات محددة تكون على شكل أمر أو نهي ، أما علم الاجرام فيعالج الظاهرة الاجرامية ، ورغم التخصص الذي فرضته الضرورة لكنهما يلتقيان في موضوع دراسة الجريمة ويلتقيان ايضا في تحديد وشرح الظاهرة الاجرامية لكنهما يختلفان في طريقة التعامل مع المجرم والجريمة ، فالقانون الجنائي يصيغ قواعده آخذا بعين الاعتبار المعطى العلمي الذي يقدمه علم الاجرام ، لكنه يعاقب على الجريمة بطريقة مجردة دون اي اعتبار لشخصية المجرم ومحيطه الاجتماعي ، لهذا يمكن القول أن علم الاجرام يعتبر مصدرا من مصادر القانون الجنائي كما أن القانون الجنائي هو مصدر من مصادر علم الاجرام لأن ميدان علم الاجرام محدد بالاطار الذي يرسمه القانون الجنائي لذلك يقال أن الجريمة ليست حقيقية في الواقع بل هي حقيقة في القانون.

القانون الجنائي هو الذي يحدد فيه المشرع الجرائم والعقوبات المقابلة لها ، فهو يوضح الجريمة كحقيقة قانونية ويصف أركانها وأنواعها ومسؤولية فاعلها ، أي أنه يتخذ طابعا معياريا بحتا ، فيضع المشرع النموذج القانوني للجريمة فيكون هذا النموذج معيارا نقيس به سلوك الأفراد لتحديد مسؤوليتهم الجنائية ، أما علم الإجرام بما أنه علم نظري بحت مهمته تقصي اسباب الجريمة فهو يهتم بدراسة الجريمة كظاهرة انسانية واجتماعية ، فهو يدرس الجريمة بما هو كائن بينما القانون الجنائي فهو نظام قانوني و ليس علما فهو يدرس الجريمة حسب ما يجب أن تكون عليه ويضع لها عقوبة في حالة وقوعها.

لذلك يختلف علم الإجرام والقانون الجنائي من حيث موضوع البحث ومن حيث أسلوب ومنهج كل منهما.

القانون الجنائي يتقيد في تحديده لفكرتي الجريمة والمجرم بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات دون أن يحيد عنها قيد أنملة ، فلا يهتم إلا بما اعتبره المشرع جريمة ، بينما علم الاجرام فقد يتجاوز هذا المعنى ليشمل دراسة مظاهر الانحراف وإن لم يصدق عليها وصف الجريمة من الناحية القانونية مثل إدمان الخمر ، الكذب ، الهدر المدرسي ، الشذوذ الجنسي ..، كما أنه يوسع من مفهوم المجرم ليشمل حالات تنطوي على خطورة إجرامية ولو لم تصدر عنها أحكام بالإدانة الجنائية بسبب توافر سبب من أسباب امتناع المسؤولية الجنائية .

نضيف إلى ذلك أن رجل القانون يعتمد في بحثه على الأسلوب القانوني في محاولة استنباط إرادة المشرع من خلال الاعتماد على اسلوب استنباطي فلسفي يقوم على المنطق القانوني أما الباحث في علم الاجرام فيعتمد على الأسلوب العلمي المبني على الملاحظة و التجربة في دراسة الظاهرة الإجرامية ، ومع ذلك تبقى هنالك علاقة وثيقة بين علم الاجرام والقانون الجنائي ترجع إلى وحدة الموضوع أي الجريمة وكذا التأثير المتبادل الذي يحدثه كل واحد منهما على الآخر.

يمكن أن نقول أن ما يجمع بين علم الاجرام والقانون الجنائي هي السياسة الجنائية باعتبارها فنا وعلما موضوعها صياغة أحسن للقاعدة القانونية على ضوء علم الاجرام وأن كلايهما يؤثران ويتأثران ببعضهما البعض.

تأثير القانون الجنائي على علم الاجرام

لا يمكن أن يتقدم علم الاجرام خطورة إلى الأمام دون مساعدة القانون الجنائي الذي يحدد نطاق دراسات علم الاجرام و يزوده بالمادة الأولية الخام لدراسته من خلال إمداده دائما بتعريف الجريمة والمجرم أمام عجز علم الاجرام عن استخلاص مدلول خاص للجريمة والمجرم ، كما أن القضاء الجنائي هو الذي يمد الباحثين وعلماء الاجرام بالمادة الاساسية الأولية الخام التي ينصب عليها أي المجرمين المحكوم بإدانتهم.

تأثير علم الاجرام على القانون الجنائي

علم الاجرام من العلوم المساعدة للقانون الجنائي ، حيث أن أبحاث علم الاجرام والنتائج التي تكشف عنها الدراسات الاجرامية تدفع المشرع إلى إدخال تعديلات جوهرية على سياسة التجريم والعقاب بل وكانت وراء عديد من النظم والمؤسسات القانونية الخاصة بالقانون الجنائي ، كإيقاف التنفيذ والإفراج الشرطي ونظرية الظروف والتدابير الوقائية وتصنيف المجرمين والرعاية اللاحقة فهذه الأفكار لم تكن لتأخذ طريقها إلى القانون الجنائي لولا أبحاث علم الاجرام .

دراسات علم الاجرام تبقى هي الملهم الأساسي للكثير من النظم القانونية في القانون الجنائي ، ودعته للتدخل بالتجريم في كثير من الحالات التي بلغت نسبة معينة من الخطورة الاجرامية والاجتماعية من ذلك تجريم حالات التشرد و التسول وإدمان الخمر والمخدرات ، وتبدو جلية من خلال تطبيق نظام التدابير الاحترازية والنص على عقوبات تراعي في توقيعها شخصية الجاني وظروفه الخاصة أكثر من مراعاة الفعل الجرمي .

ويبقى الفضل الأكبر الذي يدين به القانون الجنائي لعلم الاجرام متمثلا في سياسة تفريد الجزاء الجنائي بمعنى اختيار الجزاء الجنائي الأفضل للمجرم استنادا الى الخطورة الشخصية للجاني وجسامة الجريمة فصل 141 ق ج .

العلاقة بين علم الاجرام وقانون المسطرة الجنائية

 قانون المسطرة الجنائية هو الذي ينظم الخصومة الجنائية منذ نشوء حق الدولة في العقاب أي منذ ارتكاب الجاني لجريمته حتى انتهاء هذه الخصومة بصدور حکم بات في الدعوى ثم تنفيذ الحكم إن كان بالإدانة ، فهو علم قاعدي يرسم به المشرع الحدود الفاصلة بين ضمانة حق الدولة في توقيع العقاب على الجاني وضمانة حقوق المتهم في محاكمة عادلة دون انتهاك لحقوقه الفردية ، ورغم ما يبدو من اختلاف بين مجال علم الإجرام وبين قانون المسطرة الجنائية إلا أن أبحاث علم الأجرام كانت الدافع وراء العديد من النظم القانونية التي تضمنتها الإجراءات الجنائية من ذلك :

-  نظام الفحص السابق :

وهو أن يقوم القاضي قبل الحكم بالعقوبة بجمع أكبر قدر من المعلومات عن المتهم سواء ما تعلق منها بظروفه الاجتماعية أو حالته النفسية أو البيئية تمهيدا لمعرفة الاسباب الدافعة لارتكاب الجريمة وتحديد الخطورة الكامنة في نفسه ثم بالتالي اختيار العقوبة أو التدبير الملائم للحد من هذه الخطورة وإعادة الإدماج والتأهيل وليكون هذا الفحص دقيقا و فعالا كان لزاما على القاضي أن يستعين برجال التخصص من أطباء و علماء نفس واجتماع ، هذه النظام هو ثمرة من ثمرات أبحاث علم الاجرام ويطبق في عديد من الدول الأوروبية.

- نظام قاضي التنفيذ :

ظهرت الدعوة إليه في مؤتمرات دولية خاصة مؤتمر برلين سنة 1935 ومؤتمر علم الاجرام في روما سنة 1938 ، مفاده أن العقوبة كي تؤتي أكلها لا بد أن تراعي شخص المحكوم عليه وظروفه أثناء توقيع العقوبة عليه وهو ما يعرف بالتفريد التنفيذي للعقوبة وترك مثل هذه السلطة للإدارة العقابية دون ما رقابة من القضاء فتكون تحت رقابة قاضي رسمي هو قاضي التنفيذ يتخصص في مرحلة التنفيذ العقابي ويمكن له الافراج عن المجرم قبل انقضاء مدة عقوبته سواء عن طريق الإفراج الشرطي أو نهائيا انتقالا من تحقيق وظيفة الردع العام والعدالة إلى وظيفة التأهيل والإصلاح .

ثانيا : علم الاجرام والعلوم الانسانية

علم الاجرام لا بد له أن يمارس دراسته للمجرم والجريمة على ضوء علم النفس وعلم الاجتماع بل مستعينا حتى العلوم الانسانية الاخرى دون أن تكون لهذه العلوم صفة الانفرادية في تفسير الظاهرة الاجرامية.

لا بد أن نشير هنا إلى علم الحياة الجنائي أو البيولوجيا الجنائية التي تدرس التركيب العضوي للمجرم والوظائف الجينية لديه ثم علم النفس الجنائي الذي يدرس الذكاء والطبع و الاستعداد الاجتماعي للمجرم كما يدرس شخصية المجرم وتأثرها بالمحيط الاجتماعي ومدى تأثير ذلك على السلوك الإجرامي ، أما علم الاجتماعي الجنائي فقد تكفل بدراسة السلوك الإجرامي في مفهومه الاجتماعي مركزا على العوامل الاجتماعية والتفاعل الحاصل بينها وبين ما ينتج عنها من سلوك منحرف.

مناهج دراسة الظاهرة الاجرامية

هناك نوعين من المناهج في دراسة الظاهرة الاجرامية مناهج اجتماعية ومناهج فردية.

 

المناهج الاجتماعية في علم الاجرام :

تهدف إلى تقصي حقائق الظاهرة الاجرامية باعتبارها ظاهرة حتمية وثابتة في حياة أي مجتمع ، وما يسمى بالدراسة الاحصائية وأسلوب الاحصاء الجنائي وهو التعبير عن ظاهرة معينة بالأرقام ، وأسلوب الاحصاء الجنائي ظهر في النصف الأول من القرن 19 حينما أصدرت وزارة العدل الفرنسية إحصاء حول عدد الجرائم في فرنسا ، ولهذ االاسلوب فوائد ومزايا متعددة ، فهو يفيدنا في معرفة عدد الجرائم المرتكبة وتفسير الظاهرة الاجرامية من حيث الزمان والمكان وفي كونها توجه السياسة الجنائية التي تعتمد على ما يتوصل إليه علماء علم الاجرام وبحوثهم فتأخذ ببحوثهم وعلمهم و تعرضه على المشرع الذي يسن القوانين والفصول الجنائية ، وتقترح الوسائل الكفيلة بمحاربة الظاهرة الاجرامية والوقاية منها ، لكن رغم الفوائد التي جاء بها هذا الاتجاه أي الاتجاه الإحصائي إلا أنه توجه له انتقادات كثيرة بسبب اتسامه بالسطحية بقدر كبير ولا يعطي حجم الاجرام الفعلي للمجتمع وذلك راجع لأسباب خفية عن أعين العدالة ، وبقدر ما ينجح هذا الاسلوب في إعطاء نظرة عن حجم ونسبة الإجرام في المجتمع لكنه لم يعط الحجم الحقيقي الفعلي للجريمة داخل المجتمع فالإجرام الفعلي يشمل جميع الجرائم المرتكبة في فترة زمنية محددة بغض وصلت إلى يد الشرطة أم لا ، إذن يستحيل أن نعرف الاجرام الفعلي في مجتمع معين ، إذن سوف نبحث عن احصائيات حول الاجرام الظاهر الذي وصل إلى علم الشرطة من أجل تحديد نسبة و حجم الاجرام الظاهر في مجتمع معين ، لكن رغم أن هذه الاحصائيات لا نستطيع الاعتماد عليها ك مؤشر ثابت لكنها تبقى مؤشرا نسبيا يفرض على الباحث التعامل معه بحيطة وحذر كبيرين لأن الاحصائيات مجرد تسجيل لنشاط الشرطة وليس تعبيرا حقيقيا عن حجم ونسبة الظاهرة الاجرامية في المجتمع.

فيمكن القول أن احصائيات الشرطة هي احصائيات خداعة لأمرين اثنين :

الأمر الأول مرتبط بالتبليغ أو العلم بالواقعة الاجرامية والثاني اعادة بناءة الموضوع .

عوائق وصول الجريمة إلى مصالح الشرطة :

العلم بالواقعة الاجرامية مرتبط بأمرين اثنين أيضا وهو قابلية الجرم للبروز والاحالة ، فهناك جرائم قابلة للبروك كالقتل والسرقة فهي تصل إلى أدي الشرطة وبالتالي الوصول إلى العدالة لأنها تثير سخط وغضب الجماعة فيستحيل التستر عليها من قبل المجتمع بالمقابل جرائم الاختلاس داخل الشركات أو التهرب الضريبي هي جرائم ليست قابلية البروز وقلما تصل إلى يد الشرطة والعدالة الجنائية.

الإحالة وجود جرائم دون ضحايا مباشرين كالتهرب الضريبي مثلا وكذلك وجود مسالك للضبط الذاتي لحل المنازعات غير طريق أجهزة العدالة الجنائية مثلا السرقة من مرجان ، فمسألة الإحالة أو التبليغ إلى العدالة الجنائية مسالة مرتبطة بنظرة الجماعة والضحية ونظرتهما للعدالة الجنائية والثقة في قدرتها على حل المنازعات وفاعليتها في إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي ففي الدول المتقدمة مثلا الجمهور له ثقة في أجهزة العدالة وقدرتها على حل النزاع وإرجاع الحق إلى أصحابه .

مسالة عدم الاحالة أو التبليغ

تستر العديد من الجرائم وتحول بينها وبين الوصول إلى العدالة الجنائية وبالتالي هذا لا يساعدنا على معرفة حجم الإجرام الفعلي في المجتمع.

فمسألة الاحالة أو التبليغ إلى أجهزة العدالة الجنائية مرتبط بأمرين اساسيين أولهما ظروف موضوعية تتعلق بشخصية الجاني ثم وجود ضحايا مباشرين.

 ظروف وملابسات ارتكاب الجريمة :

ارتكاب الجرائم أمام أعين الناس في مكان مكتظ بالسكان يستحيل التكتم عنها فقابلية الجرائم للبروز والتبليغ عنها و وصولها إلى جهاز العدالة مرتبط بظروف وملابسات الجريمة.

اعادة بناء الموضوع :

حجم الجرائم المعلن عنه بالإحصائيات الرسمية مثلا وزارة العدل أصدرت عددا بالجرائم ، لكن ذلك الحجم ليس كل الجرائم التي أحيلت الى العدالة الجنائية بل يشمل فقط الجرائم التي تمت اعادة بنائها أي خضعت لعملية التصفية والغربلة في سائر مراحل عمل الشرطة أو العدالة الجنائية .

مثلا في مجتمع معين عدد الجرائم فيه 100 جريمة ، قد يصل إلى الشرطة 52 جريمة فقط تبليغا أو تربصا أو وشاية ، وليس كلها تحال إلى النيابة العامة فما يصل فقط 32 جريمة والنيابة لا تحيل جميع الجرائم إلى المحكمة وتقوم في غالب الأحيان بحفظ الملف لأن لديها سلطة الملاءمة فيحفظ الملف نظرا لعدم كفاية الادلة أو أن الضرر الواقع لا يستحق إجراء محاكمة أو عدم الاختصاص فيكون نوع القضية مدنيا وليس جنائيا ، إذن 12 جريمة فقط تصل إلى المحكمة لأن من مهام النيابة العامة غربلة و تصفية القضايا المعروضة عليها فيستحيل إحالة جميع القضايا إلى القاضي وليس جميع القضايا التي تعرض على المحكمة يتم الحكم فيها بالسجن فتحصل البراءة وربما عقوبات مخففة ربما فقط 8 جرائم قد يصل بها الأمر إلى السجن ، خلاصة القول يستحيل معرفة معدل الجريمة الفعلي داخل مجتمع ما فجميع الاحصائيات تبقى خداعة.

التمييز بين الاجرام الظاهر والاجرام الشرعي :

الاجرام الشرعي : هو حجم الاجرام الصادر عن المحاكم الجنائية.

الاجرام الفعلي : هو عدد الجرائم الحقيقية داخل مجتمع ما.

الاجرام الظاهر : هو الاحصاء الصادر عن مراكز الشرطة .

سميناه شرعيا لأنه يعتمد على مبدأ الشرعية أي لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص ، لكن لا يمكن الاعتماد كما قلنا على إحصاء المحاكم لأنه لا يمثل الاجرام الفعلي داخل المجتمع لذلك يذهب الباحثون الى الاحصائيات الصادرة عن مراكز الشرطة لأنها تكون أكثر دقة وأحسن وسيلة لحساب حجم الاجرام الظاهر.

الرقم الرمادي = الاجرام الشرعي ناقص الاجرام الظاهر .

الرقم الاسود = الاجرام الظاهر ناقص الاجرام الفعلي .

من خلال هذه المقاربة يتضح أن هناك عملية تصفية وغربلة تقوم بها أجهزة العدالة الجنائية ابتداء من مصالح الشرطة إلى مراكز السجون ، وكخلاصة يمكن القول أن الاحصائيات الجنائية بمختلف مستوياتها سواء كانت صادرة عن مصالح الشرطة أو النيابة العامة أو المحاكم أو السجون لا يمكن الاعتماد عليها كمؤشر إحصائي سليم باستطاعته أن يدلنا عن حجم الاجرام الفعلي داخل مجتمع ما لأن هناك جرائم كثيرة يتم التستر عليها لامتناع الافراد عن التبليغ عنها.

الرقم الاسود أو المظلم هو حجم هذه الجرائم المستترة الخفية وهو الفارق بين الاجرام الحقيقي والاجرام المعلن عنه ، ولا يوجد لحد الساعة أي معيار حقيقي يمكن الرجوع إليه لمعرفة حجم الاجرام الفعلي للمجتمع ، فهناك جرائم العار كالاغتصاب و زنى المحارم و الاجهاض و جرائم المسؤولين السامين والرشوة والاختلاس ، كل هاته الجرائم يستتر عنها وتقع بشكل يومي ومستمر ولا تصل إلى علم العدالة بل وهناك من الجرائم ما يصل إلى يد العدالة لكنها تتقاعس عنها لعدم كفاية الأدلة أو لنقص في الإمكانيات والشرطة دائما تتستر عن الحجم الحقيقي للجرائم كي يشعر الناس بالامان وتظهر بمظهر المسيطر على الوضع ولا تسود حالة الخوف في المجتمع ، لكن يمكن القول أن الاحصائيات الرسمية هي احصائيات خداعة لا يمكن الاعتماد عليها ولا يمكن الاعتماد عليها لاستخراج خلاصات حتمية ، فيستحيل على الباحث في علم الاجرام الاعتماد عليها لكنه يستأنس بها فقط ولا يمكنه بأي حال من الاحوال أن يستخرج منها قواعد أو قوانين ونتائج دقيقة بالتالي فهذا الاسلوب أو الدراسة لا يمكن الاعتماد عليها إلا استئناسا و تعتبر مؤشر نسبي لذلك سننتقل إلى دراسة المناهج الفردية.

مناهج البحث الفردية في علم الاجرام 

تنقسم إلى قسمين الفحص و دراسة تاريخ المجرم .

الفحص

الفحص بدوره ينقسم إلى قسمين فحص بيولوجي و فحص نفسي عقلي .

والفحص البيولوجي ينقسم بدوره إلى فحص خارجي وفحص داخلي .

الفحص البيولوجي الخارجي :

وهو محاولة للربط بين السمات الخلقية للأفراد و سلوكهم الإجرامي بمعنى إيجاد الصلة بين العيوب الخلقية العضوية والسلوكات الاجرامية ، هذا المذهب بقيادة لامبروزو والمدرسة الوضعية مثل عدم تناسق أعضاء الجسم عدم انتظام الاسنان فهذه العيوب تدل على سلوك إجرامي معين ، هذا الاتجاه يعتقد أن كل من له عيوب خلقية معينة يكون ذا ميل إجرامي معين يعني أنه مشروع مجرم قادم ، فالوشم مثلا يدل على قلة أو انعدام الاحساس بالألم لكن ليس هناك دليل علمي على هذه المقولة لأن تعميمها خطأ محض وأن كل عيب بيولوجي في الإنسان يؤثر على سلوكه ويجعل لديه ميولا إجرامية .

الفحص البيولوجي الداخلي :

محاولة الربط بين الاختلالات التي تصيب وظائف الأعضاء الداخلية التي تصيب الانسان وبين سلوكه الإجرامي مثل الجهاز التناسلي أو الهضمي وكل اختلال للأعضاء الداخلية للإنسان يؤثر على سلوكه الإجرامي.

الفحص النفسي العقلي :

يتم هذا الفحص عن طريق استجواب المجرم وملاحظة انفعالاته وتصرفاته حيال ذلك ، والغرض هو محاولة الوقوف على الاضطرابات النفسية التي يعاني منها ومدى علاقتها بالسلوك الإجرامي ، فالباحث يستجوب المجرم وأثناء الاستجواب يلاحظ الانفعالات والاضطرابات النفسية والعقلية فكلما كان الخلل في الغرائز الجنسية كانت الجرائم جنسية وكلما كانت جرائم العنف كان لديه خلل في غريزة البقاء وكلما كان لديه خلل في غريزة القناعة كانت جرائم السرقة .

دراسة تاريخ المجرم :

عندما يفشل التحليل البيولوجي الداخلي والخارجي و النفسي العقلي في الكشف عن اسباب ارتكاب الجريمة يتم اللجوء إلى دراسة تاريخ المجرم منذ بدء تكوينه وولادته إلى اللحظة التي يتم فيها ارتكاب الجريمة انطلاقا من قاعدة عامة تقول إن ماضي المجرم يكشف عن حقيقة سلوكه  الإجرامي أي الربط بين ماضي المجرم وسلوكه الاجرامي تحت القاعدة التي تقول " ماضي المجرم يكشف حقيقة جريمته " ودراسة تاريخ المجرم تكون عبر مراحل أو ثلاثة اساليب :

 الملاحظة ، الاستبيان ، المقابلة هذه المناهج التي اعتمدها علماء الاجرام في تحليل الظاهرة الاجرامية انتقلت بنا من عهد النظريات إلى عهد الدراسة العلمية أما النظريات القديمة فكانت على غير أساس علمي .

الملاحظة :

هي أولى مراحل المنهج العلمي وأحد أدوات المنهج الاستقرائي وتسبق ارتكاب الفعل الجرمي وتقوم على ربط ومراقبة الظاهرة بهدف استخلاص القاعدة العامة التي تحكم السلوك الاجرامي هذه الملاحظة تجري من خلال الاتصال المباشر بالمجرم بهدف استخلاص القوانين والقواعد العامة التي تحكم سلوكه وتكون عن طريق رصد المجرم وتتبعه ومراقبته اليومية عن طريق مشاركته حياته أو عن طريق جاسوس ليستخلص الدوافع من وراء السلوك الإجرامي وهي تكون اقرب إلى المصداقية والملاحظة تكون نوعين إما بسيطة فتكون دون وسائل تقنية حديثة أي فقط من خلال الملاحظة العادية والاستماع إليه وهناك ملاحظة مركبة التي يعتمد فيها الباحث على وسائل تقنية حديثة كجهاز كشف الكذب أو التسجيل أو الكاميرا وهو طريقة أقرب الى المصداقية للتأكد من مصداقية المعلومات التي يجمعها الباحث.

الاستبيان :

وتكون على شاكلة استمارة تضم عددا من الاسئلة توجه إلى الأفراد محل البحث وتطلب منهم تسجيل إجاباتهم فيها دون حضور الباحث الذي فقط يتولى إعداد الاستمارة وغالبا ما تنص على أسباب ارتكاب الفعل الجرمي وهي سبعة اسئلة صاغها عالم الاجرام على شكل أدوات استفهام " من ؟ ماذا ؟ لماذا ؟ بماذا ؟ متى ؟ أين ؟ كيف ؟ "

والاستبيان وسيلة مهمة للباحث لكن لها مساوئ كثيرة منها أن المجرمين يرفضون إعطاء الاجوبة الصحيحة فيكون جوابهم فيه استهزاء وخداع كما أن الكثير من المجرمين يجهلون الكتابة والقراءة .

المقابلة :

إذا كان الاستبيان يتم في غياب الباحث فإن المقابلة تمكن الباحث من الاتصال المباشر بالمجرم ويقوم بنفسه بالاستجواب فيتعرف على كافة البيانات عن المجرم والمعطيات المتعلقة بالجريمة والحالة الاجتماعية للمجرم وللمقابلة مزايا متعددة منها أنها لا تتطلب أن يكون المجرم ذا مستوى دراسي معين عكس الاستبيان ثم أن حضور الباحث في المقابلة يساعده على طرح أسئلة لم تخطر له على بال خلال وضع الاستمارة فتظهر بمناسبة حالة المجرم النفسية خلال المقابلة كما أن المقابلة تبني جسور الثقة بين الباحث والمجرم فتكون الاسئلة أكثر واقعية وصدقا.

أساليب البحث في الظاهرة الاجرامية

حيث أن زوايا النظر إلى الظاهرة الاجرامية متعددة كان طبيعيا أن تتعدد أساليب البحث عن أسبابها فنظرة الطبيب غير نظرة عالم الاجتماع وهي غير نظرة رجل القانون ، والباحث يجب أن يتجرد من كل فكرة مسبقة حتى يكون بحثه موضوعيا خال من أي حكم مسبق على الظاهرة وأهم أساليب البحث في أسباب الظاهرة الإجرامية :

1-      التجربة

هي العمود الفقري لدراسة الباحثين في العلوم الطبيعية وتقدم أسمى النتائج العلمية لكن الإنسان كائن مركب ويصعب إخضاعه لهذه التجارب حيث تمس بحقوقه الادمية والاجتماعية ، فالتجربة على توأمين مثلا تؤدي بنا إلى ظلم أحدهما والزج به في بيئة إجرامية وإخضاعه لتأثيراتها ، كما لا يمكن في العلوم الجنائية تطبيق نتائج التجربة المنصبة على نموذج إجرامي معين "انسان معين" على غيره من المتهمين ، على أي يبقى أن الزمان يجود دائما بأمثلة نستطيع من خلالها دراسة الجريمة والمجرم ومن خلال الملاحظة الدقيقة وبعض الدراسات وعقد مقارنات و استعانة بالإحصائيات واستخلاص النتائج يمكن التوصل الى معلومات ثمينة ونتائج يعتد بها علميا وتصلح اساسا لمعطيات راسخة لعلم الاجرام .

 2 - الملاحظة :

هي أول مراحل المنهج العلمي ، وهي أحد أدوات المنهج الاستقرائي وهي تسبق الجريمة ، وتقوم على رصد ومراقبة الظاهرة بهدف استخلاص القاعدة العامة التي تحكمها ، والملاحظة تجري ميدانيا أي المراقبة المباشرة للمجرم بهدف استخلاص القوانين العامة التي تفسر السلوك الاجرامي ، وتلعب الملاحظة دورا قويا في علم الاجرام وتتطلب ملاحظة العينة ثم تسجيل المعلومات ، وتحدث الملاحظة في مواقع طبيعية أو في مختبرات مع وسائل خاصة مع ما يستوجب ذلك من الخبرة والموضوعية في التقدير ، وهناك نوعان من الملاحظة :

• الملاحظة البسيطة : عن طريق المشاهدة والمراقبة دون أي أجهزة فنية وجمع المعلومات عن الظاهرة، هذه الطريقة تنقسم ايضا الى نوعين :

- طريقة المشاركة : ينزل الباحث إلى ميدان الاجرام ويندمج في الوسط المستهدف بالدراسة حتى يصير فردا عاديا فيه ، مزية هذه الطريقة أنها تتيح للدارس معاينة الواقع عن كثب لكن يعاب عليها أنها تقتضي منه أن يصبح شريكا لأعضاء الفئة المستهدفة وهو ما يقلل من نطاق خبراته ثم تأثير المشاركة العاطفية لغيره من الأفراد ، هذه الطريقة يصعب سلوكها لصعوبة نزول الباحث الى الواقع ومشاركة الناس طريقة إجرامهم وما يتطلبه من ارتكاب الجريمة من أجل الوصول الى كشف الحقائق .

حيث يفصح الدارس للفئة المستهدفة عن غرضه ويحاول كسب ودهم وثقتهم ويصل روابط طيبة معهم على أن لا يندمج معهم اندماجا كليا حتى لا يؤثر وجوده على طبيعة نشاطهم.

• الملاحظة المنظمة : تختلف هذه الطريقة عن الملاحظة البسيطة في استعانة الباحث بمعدات تقنية متطورة تساعده على جمع المعلومات مثل الاستمارات والاختبارات واجهزة القياس وأجهزة التصوير والتسجيل والتحاليل الكيماوية والكشف الطبي من أجل التحقق من صدق المعلومات التي يسجلها ، جدير بالذكر أن مصادر الملاحظة لدى باحثي علم الاجرام هي كالتالي :

- الإدراك المباشر للجريمة أي ملاحظتها أثناء ارتكابها وهو أمر نادر لكن يمكن حصوله من خلال التصوير أو المصادفة ، كاميرات المراقبة مثلا.

- اثبات الحالة بعد إتمام الجريمة

 - دراسة طريقة ارتكاب الجريمة، حالة كسر قفل مثلا

- حصيلة الجريمة ، سندات بنكية مزورة مثلا دراسة مصنف القضية

 - الاعمال المنجزة من قبل المسجونين كالرسم والكتب والأدوات المصنوعة.

3- الدراسة البيولوجية والنفسية والعقلية :

هناك فحص بيولوجي وأخر نفسي عقلي.

- الفحص البيولوجي :

عبر فحص طبي شامل للحالة محل البحث ، فيشمل البحث أوجه الخلل العضوي بجانب فحص الغدد وإجراء الاشعة إلى غير ذلك لمعرفة أي خلل في أجهزة الجسم قد تسبب في حدوث الجريمة وأول من اهتم بهذه الدراسة الإيطالي لومبروزو وتبعه آخرون حاولوا ربط السلوك الاجرامي بالخلل العضوي .

- الفحص النفسي العقلي :

يقصد به دراسة نفسية المجرم وتحديد مقدار ما يتمتع به من ذكاء ومدى اعتدال غرائزه و عواطفه ، هذا البحث يحصل من خلال الاستجواب والملاحظة وإجراء اختبارات الذكاء .

4- الدراسة الاحصائية :

هو أكثر الأساليب شيوعا في الدراسات الإجرامية و يعرف بكونه مجموعة من القواعد العددية حول ظاهرة معينة ، أي التعبير عن الظاهرة بالأرقام ويكشف هذا الأسلوب مدى ارتباط عدد معين من الجرائم بوجود ظروف معينة كالفقر والمهنة والطقس والحالة العائلية والدين والظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية .

ظهرت أول مرة في فرنسا في القرن 19 وأهم مزايا هذا الأسلوب :

- توجيه السياسة الجنائية في مواجهة الظاهرة الاجرامية

- تفسر الجريمة بحسب المكان والزمان .

- اقتراح وسائل المعاملة الأمنية من قبل رجال الأمن.

شروط نجاح الأسلوب الاحصائي :

- أن تكون العينة محل البحث ممثلة تمثيلا جيدا  لجميع الأفراد مما يسمح بتعميم النتائج ، والتمثيل الجيد للعينة يستوجب الاستعانة بالمجموعة الضابطة أي جملة من غير المجرمين ممن تماثل ظروفهم مع ذات العدد من المجرمين الخاضعين للدراسة ، لكن يصعب اختيار المجموعة الضابطة في الدراسات الاجرامية لعدم الرغبة في تعاون المجموعة مع الباحث او يتعذر التأكد من أن بعض المجرمين لم يندس بين غير المجرمين .

- ملائمة أفراد العينة ، أي أن يكون العدد كافيا دون أن يكون مبالغا فيه.

تقدير أسلوب الدراسة الاحصائية :

أسلوب يتسم بالسطحية لأنها لا تقيس حجم الاجرام الفعلي بل تقيس نشاط أجهزة العدالة الجنائية ، والأجرام الفعلي هو "جميع الجرائم التي ترتكب في مجتمع معين وفي زمن محدد بغض النظر عن وصول هذه الجرائم إلى علم وكالات الضبط الاجتماعي أم لا وسواء حققت الشرطة فيها أم لا " فأمام استحالة الوقوف على حجم الاجرام الفعلي يلجأ الباحثون إلى إحصائيات الشرطة لكن الباحث يجب أن يتعامل مع هذه المعطيات بكل حذر وحيطة لأن حجم الاجرام المعلن في الاحصائيات الرسمية لا يمثل الأجرام المحال على أجهزة العدالة بل فقط احصائيات الإجرام كما تمت إعادة بنائه من طرف هذه الأجهزة بعد أن يخضع لعملية الغربلة والتصفية :

- المرحلة 1 : مرحلة الشرطة أو الدرك و يسمى بالإجرام الظاهر ، وهي احصائية خادعة لا يمكن اعتبارها إلا كمؤشر نسبي لأن هناك قضايا يتم رفضها أو تتم معالجتها ولا تصل الى المرحلة اللاحقة

- المرحلة 2 : على مستوى النيابة العامة ، فلا تتم المتابعة الا في عدد قليل من القضايا التي تحال إليها من الشرطة والدرك بسبب ميل النيابة العامة الى حفظ الملفات بدون متابعة.

- المرحلة 3 : مرحلة الحكم ، وتسمى الأجرام الشرعي ، غير أن الإحصائيات التي تصدرها المحاكم الشرعية لا تشمل سوى الأفعال التي تمت المعاقبة عليها وليس كل القضايا يتم الإدانة فيها ، وبالتالي لا يمكن إحصائيات المحاكم أن تعطينا صورة صادقة عن الظاهرة الاجرامية ، وهنا يفضل الباحث احصائيات الشرطة لأن احصائيات المحاكم أقل بكثير من احصائيات الشرطة.

- المرحلة 4 : تكون على مستوى المؤسسات العقابية ، لا تمثل العدد الحقيقي لأنها لا تشمل سوی من أودعوا السجن ولا تشمل المجرمين الذين لا تطالهم يد العدالة وأولئك الذين تمت إدانتهم بعقوبات مالية كما أن هناك جرائم ترتكب من طرف اشخاص معنوية يحكم عليها بعقوبات مالية أو تدابير وقائية .

الاجرام الظاهر (الشرطة) - الاجرام الشرعي (المحاكم) = الرقم الرمادي

نلاحظ وجود عملية غربلة وتصفية تقوم بها أجهزة العدالة الجنائية ابتداءا الشرطة والدركي مرورا بالنيابة العامة وانتهاء بمرحلة الحكم .

خلاصة القول أن احصائيات أجهزة العدالة لا يعتمد عليها للوصول إلى حجم الاجرام الفعلي في بلد معين ما دام أن نسبة مهمة من الجرائم تبقى مستترة وخفية ترتكب ولا تصل الى العدالة الجنائية وذلك بسبب امتناع الأشخاص عن التبليغ عنها فلا ترد في احصائيات المحاكم و لا احصائيات الشرطة وهو ما يعبر عنه بالرقم الأسود وهو الفارق بين الاجرام الحقيقي و الاجرام المعلن عنه في الاحصائيات الرسمية وتنشأ هذه الظاهرة نتيجة تسرب عدد من الجرائم من الحصر الذي يجريه القائمون على الاحصائيات الجنائية ، ويمكن القول أن الاحصائيات الجنائية ليست خداعة فقط وغير مجدية بل ضارة بما تخلفه لدى الأفراد من احساس قوي بعدم الامان و تحولها إلى أداة للصراع السياسي داخل الدولة ، ثم هناك غياب أو نقص المجموعة الضابطة بحسب انها إحدى الشروط الضرورية لصحة نتائج الدراسات الإحصائية عامة والجنائية خاصة.

تفسير السلوك الاجرامي ( نظريات علم الاجرام )

علم الاجرام يدور حول سؤال جوهري مهم " لماذا يسلك الإنسان مسلكا إجراميا ؟ " وكل النظريات التي تحدثت في هذا الأمر لم تشف الغليل ولم تجب عن السؤال ، ما هو السبب ؟ ما هي العلة وراء السلوك الإجرامي ؟ و سوف يتهم هذا العلم بأنه غير ناضج وما زال في مرحلة التكوين لأننا لسنا في خضم علم من العلوم الطبيعية ، بل نحن بصدد علم إنساني يبحث في الانسان ، والانسان مزيج من العقد النفسية ، تؤثر على سلوكياته ، فالجريمة إذن علم متراكم وأغلب الاجرام يدرسون الجريمة كونها ظاهرة عامة لكن ينسون أن الجريمة أنواع وليست واحدة فالجرائم الجنسية تختلف عن الجرائم المالية أو جرائم العنف ، ووضع الجريمة كيفما كانت تحت قاعدة عامة خطأ كبير ، فيجب دراسة كل جريمة على حدة لأن لكل جريمة أسبابها الخاصة ، فالتخصص مما يساعد في تطور العلوم ، فالطب لولا تخصصه لما وصل إلى ما هو عليه من النجاح فيجب دراسة كل جريمة على حدة لكي نصل إلى نتيجة حتمية وعلاج فعال لكل جريمة .

كما أن الجريمة هي المجهول الذي يرتبط بالباطن والجانب الخفي من الإنسان ، فيستحيل معرفة باطن الانسان و يستحيل توقع سلوكاته ، وعلماء الاجرام أنفسهم انقسموا إلى  اتجاهات مختلفة في إعطائهم التفاسير للظاهرة الإجرامية.

الاتجاه التكويني : ويرجع اسباب الجريمة إلى اسباب عضوية أو نفسية وقد ظهر في أوروبا أو ما يعرف بالمدرسة الاوروبية.

الاتجاه الاجتماعي : وهو اتجاه أمريكي ظهر في أمريكا بعد فشل الاتجاه الأوروبي وقال بأن الجريمة لا ترجع الى التكوين الجسمي الطبيعي للإنسان بل ترجع إلى محيطه الاجتماعي والعوامل الاجتماعية ومن الخطأ اعتبار الجريمة ناتجة عن العوامل البيولوجية النفسية وإنما هي نتيجة العوامل الاجتماعية فعندما يتظافر الفقر مع البطالة مع القمع تنتج لنا إنسانا مجرما.

الاتجاه التكاملي : الذي جمع بين المدرستين التكوينية والاجتماعية وقال أن الجريمة ما هي إلا نتائج لعوامل بيولوجية نفسية واجتماعية في نفس الوقت أي هي خليط مركب.

الاتجاه التكويني في علم الاجرام :

نظريات هذا الاتجاه أجمعت على أن السلوك الإجرامي سببه أسباب داخلية ترتبط بالشخصية الاجرامية اي بالتكوين العضوي أو النفسي للمجرم .

- النظرية البيولوجية في علم الاجرام – الاتجاه العضوي -

 *مرحلة ما قبل لومبروزو

اهتم الفكر الانساني على مر العصور بالجريمة وحاول جاهدا أن يجد لها شروحات مناسبة كما حاول أن يحد منها بالعقاب من منطلقات أخلاقية وفلسفية متعددة ، لكنها بقيت في إطار العقاب دون أن تبحث عن الدوافع لتعالجها فالجريمة كانت دائما تهدد أمن المجتمع وبالتالي كان العقاب ضروريا لذلك لم تظهر دراسة اسباب ما وراء الظاهرة الاجرامية إلا في القرن 19 .

أما في القرنين 18 و 17 فقد ذهب أغلب الشارحين للسلوك الإجرامي إلى اعتبار العوامل البيولوجية ، وهي محاولة تقترب من فراسة الإنسان القديم الذي ربط بين المجرم و ملامح جسدية ظاهرة في جسمه ، حيث قام الأطباء بتشريحات لجسم المجرم ثم ذهبوا إلى فراسة جديدة عرفت بفراسة الدماغ التي جعلت من قياسات جماجم المجرمين وسيلة لمعرفة المجرم ، فانطلق أطباء أوروبا باحثين عن الاوصاف الجسمية خاصة المتعلقة بالجمجمة والذراع ليربطوا بها سلوكات معينة أو يجدوا لها نماذج لها نموذجا بشريا إجراميا يفسرون به سبب الجريمة .

* عهد لومبروزو

أهمها نظرية لومبروزو في تفسير الظاهرة الاجرامية فهو الأول الذي انتقل من دراستها نظريا إلى دراستها علميا فعلم الاجرام الحديث يدين لهذا العالم الايطالي بالفضل الكبير لأنه أول من وضع الاسس 15 العلمية في مجال دراسة الظاهرة الاجرامية ويعتبر حجر الزاوية لمعظم المذاهب البيولوجية التي عملت على إعطاء تفسير للسلوك الاجرامي وهي عصب الفلسفة الوضعية .

ولد لومبروزو في ايطاليا  1836-1909 من أبوين يهوديين ، درس الطب في عدد من الجامعات  الايطالية ثم عمل أستاذا للطب الشرعي والعقلي في الجامعة وعمل طبيبا للأمراض العقلية في السجون الايطالية وعمل سنوات في الجيش الايطالي فكون بذلك تجربة كبيرة عن الجريمة والانسان المجرم له عدة أعمال حول الجريمة وأسبابها ، المرأة المجرمة ، الدعارة ، والفكرة الاساسية له هي أن هناك أشخاصا يتميزون بمظاهر جسمانية وخلقية وملامح عضوية وسمات خلقية معينة ينقادون إلى ارتكاب الجريمة تحت تأثير عوامل وراثية ويقدمون على الجريمة بحكم تكوينهم البيولوجي ، وأن سلوكهم الاجرامي يحكمه مبدأ الحتمية البيولوجية ، وإذا كان البعض اعتبر الإنسان مخيرا فإن لامبروزو اعتبره غير مخير وإنما مسيرا وأنه يولد من بطن أمه مجرما بسبب اختلالات وراثية وسمات خلقية شاذة ترجع إلى سمات الإنسان البدائي يتوارثها جيل عن جيل ، هذه الاختلالات تبدو على شكل ملامح عضوية سماها سمات الارتداد فعندما نلاحظ أن شخصا ما لديه سمات خلقية معينة شاذة نقول هذا مشروع مجرم قادم لا محالة وقد خلص لامبروزو إلى هذه النتائج انطلاقا من دراسة ميدانية في السجون والجيش وخرج بمجموعة من الخلاصات ، وتتمثل هذه السمات حسب لومبروزو في الخصائص الجسمانية التي إذا ما توفرت في انسان ما يكون ختما مجرما .

لومبروزو يعتمد في نظريته على فرضيتين رئيسيتين استقاها من علم الأجناس وعلم الأمراض العقلية ، فالمجرم المطبوع بالولادة في نظره يخلق مجرما نتيجة ردة أو نكسة عكسية وراثية فهو يتميز عن الانسان العادي بأنه توقف نموه الطبيعي في رحم أمه وبقي في حالة بدائية تشبه حالة الانسان المتوحش العاجز عن إدراك القوانين التي تنظم المجتمع ، فهو يستجيب لغرائزه الحيوانية والفرضية الثانية أن إجرام المجرم يأتي نتيجة مرض الصرع الذي يفقد المجرم الذاكرة ويجعله يرتكب أفعالا فظيعة ، وهو في كلا الحالتين مجرم بالوراثه مدفوع بحتمية بيولوجية.

وقد أجرى لومبروزو تجارب على حوالي 6000 مجرم وقارنها مع الانسان العادي فحصل على نتائج أكدت صحة فرضياته وهي أن المجرم يختلف عن الانسان العادي بحالات شاذة في شكل جمجمته تشكل انحطاطا في الجنس البشري وهبوطا نحو مستوى الحيوانية ، وهكذا يتميز المجرم بفقدان الشعور بالعطف والألم كما يظهر شعوره بالميل الجنسي مبكرا و انعدام الرادع الاخلاقي هكذا يعتبر إجرامه لا مفر منه ونتيجة حتمية وقد أعطى أوصافا محددة لهذا المجرم ففي الاغتصاب الجنسي مثلا يتميز بالفك الضخم والجبهة الضيقة والأذنين المندفعتين بعيدا عن الرأس و وجنتين بارزتين وانخساف في الدماغ وتقارب بين العينين ، أما في جرائم السرقة فيتميز بكثافة وانخفاض الحاجبين وصغر العينين وتحركهما المستمر.

هكذا خلص لومبروزو إلى مصطلح الانسان المجرم المثقل بالجريمة والمطبوع على ارتكابها ، لكن لومبروزو تراجع نسبيا عن فكرة المجرم بالفطرة بعد كثرة الانتقادات له وعوض الفكرة بالمجرم العاطفي والمجرم المختل عقليا ، الشيء الذي يوحي أنه بدأ يؤمن بالمؤثرات النفسية والخارجية وتأثيرها على السلوك الإنساني و تحدث عن ذلك أواخر عمره .

يبقى أن لومبروزو كان له الفضل في الانتقال من المدرسة الكلاسيكية والفلسفية وأعطى لعلم الاجرام نكهة علمية كانت سببا في ظهور المدرسة الايطالية التي دشنت عهدا جديدا في علم الاجرام ورغم المغالاة في العامل البيولوجي أو الانحطاطية البيولوجية فهو يرجع إليه الفضل في استعمال منهجية علمية لدراسة الظاهرة الاجرامية وكان أول من استعمل المنهجية المقارنة أو طريقة المغايرة التي تعتمد على إجراء دراسات وفحوص على جماعة من المجرمين و مقارنتها مع جماعة من غير المجرمين للتوصل إلى نموذج للمجرم ، ومع ذلك وجهت انتقادات كثيرة إلى لومبروزو ذلك أن العالم الإنجليزي غورنغ أثبت أنه لا فروق واضحة بين المجرمين وغير المجرمين من الناحية العضوية مما يفند نظرية المجرم بالفطرة كما أثبت ذلك العالم الأمريكي هوتن ، كما أن نظرية الانسان بالفطرة أصبحت لا تناسب الأفكار الحديثة التي تؤمن بالمساواة بين جميع البشر ، أولا فكرة توقف النمو فكرة لم يتفق معه فيها الكثير وهي فكرة غير مستساغة فلا يمكن أن يعود الإنسان 60 مليون سنة إلى الوراء ليجد نفسه حيوانا ، ثانيا هناك فروق كثيرة بين الانسان والحيوان فالإنسان هو الإنسان ولا يوجد انسان متوحش متخلف زمنيا عن زمانه متوقف عن التطور واتهموا لومبروزو بالعنصرية .

سمات الارتداد عند لومبروزو :

المجرم حسب لومبروزو هو نوع من البشر لكن ما يميزه عن البشر هو تميزه بمظاهر جسمانية شاذة إذا ما توفرت في إنسان فإنه يكون مجرما ، هذه السمات شبيهة بالإنسان البدائي المتوحش وقال أن هناك 10 سمات أساسية هي التي يرتد بها إلى مواصفات الانسان البدائي ولا بد أن تتوفر 5 صفات على الأقل في الإنسان ليصبح مجرما بالفطرة لا محالة وأن علامة واحدة أو اثنتين لا تكفي بل لا بد من وجود 5 صفات على الأقل ليكون لديه ميل إجرامي ويرتكب الجريمة عندما تسنح الفرصة وهي :

- انحدار وضيق في الجبهة

- غزارة في شعر الجلد والرأس

- عدم انتظام الأسنان

- ضخامة الفكين

- طول مفرط في الذراعين

- قلة شعر اللحية

- شذوذ في حجم الاذنين والانف

- بروز عظام الوجنتين

- ضيق تجويف عظام الرأس

- البلوغ الجنسي المبكر .

 هذه السمات تشبه الانسان البدائي الذي يميل نحو الانسان الحيواني بطبيعته فكل من لديه هذه الصفات فهذه الصفات تعود به إلى طباع الانسان البدائي في سلوكاته ، ومن التجارب التي اعتمد عليها لامبروزو في أبحاثه أنه قام بتشريح جثة قاطع طريق فاكتشف أنه لديه تجويف في مؤخرة الجمجمة شبيه بتجويف الحيوانات المتوحشة والقردة ، واستخلص أن المجرم يتمتع بشذوذ جسماني خاص يرتد به إلى خصائص الإنسان البدائي فيرتكب الجريمة دون وعي أو أنه ينقاد إلى ارتكابها بشكل حتمي.

ثم أنه تناول حالة مجرم خطير قتل 20 من النساء ثم شوه جثتهم وشرب دماءهم ثم دفنهم وعند موته قام لومبروزو بتشريح جثته فاكتشف بأن لديه صفات الانسان البدائي لا من حيث الاسنان ولا من حيث الجمجمة والفكين وما إلى ذلك.

ثم قام بتشريح 383 جثة لمجرمين كانوا متهمين بجرائم عنف و اكتشف أن هناك تجويفات تشبه الحيوانات المتوحشة ، فيقول لومبروزو أن هناك سمات ارتداد .

لومبروزو لم يقف عند هذا الحد إنما قرر من واقع بحوث لاحقة أن هناك علاقة وثيقة بين السلوك الاجرامي و الصرع أو التشنجات العصبية اي المجرم المجنون انطلاقا من تجربة جندي كان طبيعيا في الجيش الإيطالي وكان معروفا بانتظامه وأخلاقه الحسنة وحسن سلوكه لكن فجأة تعرض إلى إهانة من أحد الجنود لأنه قدم من مقاطعة فقيرة فدخل هذا الجندي في حالة هستيرية و قتل 8 من زملائه وختم برؤسائه في الجيش ، من هنا ربط السلوك الاجرامي بالتشنجات العصبية أو الصرع .

* مرحلة ما بعد لومبروزو

اختلف كثير من أتباع لومبروزو معه في تفسير الجريمة وتحديد أسبابها ، فلم يتقيدوا بتفسيره وأضافوا إلى نظريته بعض الشروح ليلطفوا من طغيان العامل البيولوجي فيها ، فقال فيري بوجود عوامل خارجية أو داخلية للمجرم طبيعية أو اجتماعية تؤثر في سلوكه فاتخذ مجرى سوسيولوجيا ، أما كاروفارو فلاحظ أن العامل البيولوجي ليس وحده السبب بل هناك عوامل اجتماعية تساعد على ارتكابها واعتبر الضمير الأخلاقي معيارا لتحديد الشعور العام بالرفق والاستقامة ، وتظهر محدودية التقسيم الثنائي للجرائم إلى طبيعية واعتبارية ، فلو سلمنا بها في حالة القتل فلا يمكن التسليم بها في الجرائم التي تتطور مع المجتمع فلا يمكن للمجرم أن يتنبأ بها في بطن أمه ولا أن يتدرب عليها في رحمها بل يعيشها و يتدرب عليها في المجتمع ، فالمجرم إذن لا يخلق مجرما بالفطرة ، بل يولد كسائر الناس و يأخذ إجرامه من المجتمع ، هكذا استطاع كاروفارو أن ينتقد استاذه لومبروزو ويوجه الاهتمام إلى عوامل أخرى نفسية واجتماعية وانتقل علم الاجرام من طوره البيولوجي إلى مرحلة الدراسات السوسيولوجية لشرح الظاهرة الاجرامية.

تقييم نظرية لومبروزو :

لومبروزو هو أول من تقدم لدراسة شخصية المجرم بدل الجريمة حيث كانت جميع الدراسات السابقة تنصب على دراسة الجريمة دون ربطها بالشخصية الاجرامية للمجرم و قال أن الخطورة لا تكمن في الجريمة بل في شخصية المجرم ، أي التحول من دراسة الجريمة إلى دراسة المجرم ورغم أن أبحاثه لم تكن مرضية لكن يكفيه أنه كان السباق إلى إخضاع الدراسة الاجرامية للمنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة بعدما أخرجها من إطار الدراسة النظرية ، ثم أنه أنشأ علما جديدا حديثا يسمى بعلم الانطروبولوجيا أو علم طبائع المجرم ، وهو أول من وضع تصورا للمجرم حسب الخصائص البيولوجية والعضوية والنفسية.

نقد نظرية لومبروزو :

- وقع في خطأ منهجي من خلال تعميم نتائج البحث الفردية على جميع المجرمين ليخلص إلى نتيجة عامة تفتقد إلى الموضوعية والمنهج العلمي السليم.

- لم يقارن عينات من الأشخاص العاديين ويقارنهم بعينات من المجرمين.

- اعتماده على فكرة المجرم بالفطرة وهوما يتناقض مع فكرة أن الجريمة هي ظاهرة احتمالية لكنه يقول أنها ظاهرة حتمية وما يؤكد خطأ نظريته أن هناك أشخاص توفرت فيهم العيوب التي ذكرها ولم يسلكوا مسلكا إجراميا وبالمقابل هناك أشخاص مجرمون ولم تتوفر فيهم العيوب التي ذكرها.

- إنكاره للعوامل الاجتماعية كمحرك للجريمة ومبالغته في إظهار الخصائص البيولوجية والسمات الخلقية الشاذة.

- ربط سلوكات المجرمين بسلوك الإنسان البدائي رغم عدم توفره على معلومات دقيقة عن الإنسان البدائي وهل كان فعلا متوحشا لأن هناك دراسة تظهر أن الإنسان البدائي كان أقل وحشية من الانسان المعاصر وأن الجريمة تتلاشى كلما عدنا إلى الوراء و تزيد كلما زاد التطور بمعنى أن الإنسان كان يعيش حياة بسيطة وكانت الجريمة بمعدلات أقل من الحاضر ، فلومبروزو اعتمد على منطق افتراضي خيالي ليس له أي أسس علمية.

- لم يستطع أن يفسر الجريمة تفسيرا علميا وكيف يمكن لنا أن نربط بين التكوين البيولوجي للمجرم والسلوك الاجرامي فما هو الدليل العلمي على أن هناك صلة ما وعلاقة تربطهما.

الاتجاه النفسي في علم الاجرام

النظرية البيولوجية أخفقت إخفاقا ظاهرا في اعطائها إجابة واضحة عن الظاهرة الاجرامية ، ظهر الاتجاه النفسي السيكولوجي الذي اتفق مع النظرية البيولوجية في أن العلة هي داخل الإنسان أي الشخصية الإجرامية إلا أنه ربط السلوك الاجرامي بالاضطرابات النفسية وعدم استواء الشخصية وأن المجرم هو شخص مريض ولا يستحق العقوبة بقدر ما يستحق العلاج فلا يجب أن نسلب حريته بل يجب أن نعالجه ، وهو اتجاه من أكبر الاتجاهات التي تبحث في الظاهرة الاجرامية وتبحث في الجانب الخفي من الإنسان تلك المنطقة الباطنية غير الملموسة التي تتبرمج في سلوكاته ، هذا الاتجاه حاول كشف الحجاب عن ذلك المستور المجهول الخفي المسمى بمنطقة اللاشعور .

من أبرز علماء هذا الاتجاه سيغموند فرويد وهو عالم في علم النفس وهو المؤسس الحقيقي والفعلي لعلم النفس الحديث ، وقد حاول تفسير الجريمة تفسيرا نفسيا خالصا ، وكان الهدف من وراء أبحاثه هو إظهار التأثيرات أو اضطرابات الجهاز النفسي على سلوك الانسان عامة ومن ضمنه السلوك الاجرامي ، ولقد أثارت نظريته الكثير من الجدل وردود الفعل كالتي أثارتها نظرية لومبروزو ، لكن سيجموند فرويد اختار الطريق الصعب كونه اهتم بالصعب وهو الجزء الخفي ومنطقة اللاشعور منطقة المجهول في الانسان .

نظرية فرويد

قال فرويد بأن كل إنسان لديه ثلاثة مناطق اساسية في نفسيته : الهو أو الذات الدنيا ثم الأنا الاعلى ثم الأنا.

الهو أو الذات الدنيا :

هي مجموع النزوات أو الغرائز الفطرية في الانسان أو الشهوات التي لا يقبلها المجتمع وكل إنسان كيف ما كان مستواه إلا ولديه ميولات فطرية غريزية لا يقبلها المجتمع مثال ذلك حب الجنس والمال والبقاء ، والهو هو مستودع الشهوات وينساق وراء إشباع اللذة والشهوات دون إقامة الاعتبار لقيود المجتمع والدين والقيم الأخلاقية المتعارف عليها ، نعم هناك غرائز لكن بالمقابل هناك قيود اجتماعية فالجميع لديه غرائز جنسية لكن هل المجتمع يسمح بممارسة الجنس دون ضوابط أخلاقية و دينية كالزواج مثلا ؟ فإذا أراد الإنسان أن يعيش محترما و متوازنا في المجتمع فعليه أن يكبح هذه الغريزة وأن يعبر عنها بأسلوب شرعي مقبول اجتماعيا غير أسلوب الحيوانات التي تنساق وراء شهواتها دون ضوابط ، لكن الإنسان تفرض عليه قيود اجتماعية تفرض عليه أن يخضع لها ، هذا الهو الذي هو مركز الشهوات لا يضع أي قيود في طريق ممارسة شهواته و غرائزه ولا يحترم أي ضابط ، مثال ذلك أن الجميع يريد المال لكن المجتمع يفرض عليك أن تجني المال بطريقة شرعية عن طريق العمل وليس عن طريق السرقة والجريمة هي أن ينساق الإنسان وراء الهو فينفذ كل شهواته و ملذاته بطريقة حيوانية دون أدنى اعتبار لقيود المجتمع وقيمه الاخلاقية .

إذن الهو هو ذلك الجانب الشرير في الانسان أو النفس الامارة بالسوء.

الانا الأعلى :

ويسمى بالذات الانسانية وهو الجانب المثالي أو المظهر الروحي للإنسان ، ويضم المبادئ الاخلاقية والمثالية المستقاة من المبادئ والقيم الاخلاقية والدينية والقوانين التي تحكم المجتمع ، وظيفته هي القوة الرادعة لنزوات وشهوات الهو لنقل هي النفس اللوامة ، وهي لا تتوفر في كل إنسان فمن الناس من تعمل لديه الأنا الأعلى كلما خرج عن نطاق القواعد الاخلاقية و زل سلوكه ومن الناس من لا تتحرك لديه الانا الأعلى حتى ولو ارتكب الجرائم .

الأنا أو الذات الشعورية والعقل :

و هي مجموع الملكات الفطرية أو الفكرية المستمدة من رغبات النفس بعد تهذيبها بما ينطبق ومقتضيات الحياة الاجتماعية والقيم الأخلاقية ، وهي محاولة توفيق بين متطلبات الأنا الأعلى و متطلبات الهو.

لكن كيف فسر فرويد السلوك الاجرامي اعتمادا على الأنا الأعلى والانا والهو ؟

قال فرويد إن السلوك الاجرامي ما هو إلا نتيجة للصراع الداخلي القائم بين نزواته من جهة وبين القيم والأخلاق والعقائد من جهة أخرى ، يعني الصراع بين الهو و غرائزه ونزواته وبين الأنا الأعلى وقيمه الأخلاقية والاجتماعية وبين ضغوط العقل التي يمارسها من أجل التوفيق بين الأنا الأعلى و بين الهو ، فإذا حدث خلل في عملية الكبت وإذا ما أخفق العقل في كبت النزوات في منطقة الهو فالإنسان يرتكب جريمة ، فهناك إذن صراع بين الأنا الأعلى والهو ودور الانا هو التوفيق بينهما فإذا انفلت الهو من كل رقابة أو قيد وانطلق يشبع رغباته سيرتكب الجرائم لا محالة.

يرى فرويد أن متراكمات اللاشعور قد تتحول إلى عقد نفسية تدفع الشخص إلى التعبير عنها في صورة سلوك إجرامي ، والانسان عندما يعجز عن الكبت فإن هذا الكبت يصبح عقدة و عندما تحين الفرصة تخرج العقدة على شكل جريمة من أجل إفراغ الغرائز المكبوتة و هو ما سماه فرويد أنماط العقد .

أنماط العقد عند فرويد :

• زنى المحارم :

هناك نوعان ، عقدة إلكترا ، وهي تعلق البنت بأبيها جنسيا و يكون هذا التعلق الجنسي مصحوبا بغيرة من أمها وكراهية لها لأنها تراها منافسة لها في ابيها لكن تبقى البنت حائرة عندما ترى حنان أمها عليها وتقع الجريمة حين يدفع الهو البنت إلى قتل أمها أو تتمرد عليها ولا تقع الجريمة حين تكبت البنت هذا الشعور وتدعه في منطقة اللاشعور ، النوع الثاني هو عقدة أوديب وهي تعلق الولد بأمه جنسيا .

• عقدة الذنب :

الأنا الأعلى توجه لومها إلى الهو لأنه ارتكب جريمة مما يدفعه إلى ارتكاب جريمة ثانية ليتم القبض عليه وتوقيع العقوبة عليه ليتخلص من الشعور بالذنب ويتخلص من عقدة الذنب.

• عقدة النقص :

تنشأ نتيجة الصراع الكامن في منطقة اللاشعور نتيجة شعور الإنسان بالنقص في أحد أعضائه الخارجية أو مظهره أو أعضائه الداخلية أو الاحساس بخيبة أمل أو فشل اجتماعي تمنعه من الوصول إلى طموحاته فيدفعه الإحساس بالنقص إلى ارتكاب الجريمة كتعبير عن شعوره بالنقص .

تقييم نظرية فرويد :

- أول عيب تميزت به نظرية فرويد هو سقوطها في الخطأ المنهجي ثم صعوبة المصطلحات التي استعملها سيجموند فرويد ، هذه المصطلحات لا تستند إلى أي دراسة علمية بل هي مجرد تخمينات من فرويد و يستحيل التأكد من صحتها فمصطلحات كالهو والانا الأعلى والانا كيف يمكن قياسها علميا وكيف يمكن إخضاع هذه المصطلحات للتجربة والملاحظة للتأكد من مصداقيتها بل ومن وجودها أصلا فهي تبقى مفاهيم غامضة ولم يأتي بها أي عالم غير فرويد.

- مبالغة هذه النظرية في إظهار العيوب النفسية والعقد والاختلالات العقلية و الاضطرابات العاطفية التي تدفع للجريمة و إغفالها للظروف الاجتماعية والطبيعية التي تساهم بدورها في الدفع إلى ارتكاب الجريمة .

- الخلل النفسي لا يمكنه لوحده أن يدفع إلى ارتكاب الجريمة فكل الناس تعاني من مشاكل نفسية ولا يقدمون على ارتكاب الجرائم .

- هذه النظرية تنظر إلى السلوك الاجرامي نظرة أحادية الجانب أي النفسي و تستبعد الظروف الاخرى.

الاتجاه الاجتماعي في علم الاجرام

يعطي هذا الاتجاه للعوامل الاجتماعية الأهمية القصوى والمطلقة في خلق الجريمة وكل أفكاره ونظرياته متقاربة سنتناولها من زاويتين أساسيتين ، نظرية التركيب الاجتماعي أو الهيكل الاجتماعي ويندرج تحت نظرية الهيكل الإجتماعي خمسة نظريات هي :

- نظرية الصراع

- نظرية اللانظام

- النظرية الإقتصادية

- النظرية البيئية

- النظرية العرقية ، ثم نظرية الكيفية الاجتماعية تعنى - ببيان الميكانيزم الذي يصير من خلاله الشخص مجرما ، ومن أهم النظريات التي قيل بها في هذا الشأن : نظرية التقليد و نظرية الاختلاط الفارق .

نظرية سيلين التركيب الاجتماعي :

نظرية التركيب الاجتماعي أو الهيكل الاجتماعي ، تحاول الربط بين السلوك الاجرامي وبين هيكل وتنظيم المجتمع أو التركيب المجتمعي و سنتحدث هنا عن صراع الثقافات وهو وجود تعارض وتناقض بين قيم ومبادئ وثقافات معينة تسود مجتمعين وهذا الأمر يتخذ صورتين :

التنازل الأصلي الخارجي : يحصل عند تصادم ثقافة وقيم ومبادئ مجتمع مع ثقافة وقيم ومبادئ مجتمع آخر ، أي مجتمعين منفصلين مختلفين .

مثال ذلك مهاجر عربي في الغرب قام بجريمة للدفاع عن شرف ابنته ظنا منه أن هذه الجريمة ستلقى قبولا من المجتمع الغربي بحكم ثقافته العربية لكن الواقع أن ثقافة المجتمع الغربي تتقبل الحرية الجنسية ، وكذلك في حالة سب الرسول صلى الله عليه وسلم فهي بالنسبة إليه جريمة وهي بالنسبة إلى المجتمع الغربي حرية تعبير .يقول سيلين إن سبب الجرائم هو تعارض وتضارب الثقافات لمجتمعات مختلفة لاستحالة الجمع والاندماج والتعايش بين مجتمعين مختلفين.

التنازع الثانوي الداخلي : حين يحصل التصادم بين ثقافتين مختلفتين داخل مجتمع واحد ، المجتمع الأمريكي نموذجا ، أو اللبناني ، حيث يسود تناقض بين ثقافات متعددة لأن المجتمع الأمريكي هو خليط بين ثقافات متعددة يؤدي إلى اضطراب اجتماعي ويؤدي إلى عدم التعايش بين الفئتين مما يؤدي إلى ارتكاب الجريمة لتمسك كل فئة بثقافتها وترفض ثقافة الآخر .

تقييم نظرية سيلين :

قد أصابت جزءا من الحقيقة لكن في نفس الوقت أخفقت وفشلت فشلا ذريعا في إعطاء تفسير للظاهرة الإجرامية حيث ركزت على العنصر الاجتماعي فقط وعلى نوع الجرائم التي تقع بسبب تنازع الثقافات مثل الجرائم ضد الأجانب لكنها لم تفسر لنا باقي الجرائم الأخرى كالسرقة والقتل حيث لا يوجد أن تنازع بين الثقافات .

ظرية التركيب الاجتماعي تعتمد في شرحها وتفسيرها للظاهرة الاجرامية على تركيبة أو هيكل المجتمع ، هذا الاتجاه يرفض ربط الظاهرة الاجرامية بالذات سواء من الجانب البيولوجي أو النفسي ويعتقد أن الجريمة تكمن في اسباب خارجية بعوامل اجتماعية مختلفة ، وصعب على هذا الاتجاه أن يجد السبب الحقيقي المحض الذي يدفع الانسان للجريمة لتعدد الأسباب الاجتماعية .

نظرية دوركهايم اللانظام :

دوركهايم هو عالم اجتماع خلص إلى العديد من النتائج ، يقول أن الجريمة هي ظاهرة حتمية في مجتمع معين وهي ظاهرة اجتماعية ولم يقل لها اسباب بيولوجية أو نفسية أو عقلية وإنما اجتماعية حيث يقول أنه لا يوجد مجتمع يخلو من الجريمة وأن كل مجتمع كيفما كان نوعه ومستواه الدراسي والعلمي والثقافي لديه إجرام وأنه من المستحيل وجود مجتمع بلا جريمة ، فيستحيل أن يكون جميع الناس أخيارا صالحين فمن الضروري أن يتواجد أناس أشرار ، فالجريمة إذن حسب دوركهايم هي ظاهرة عادية طبيعية عادية ترتبط بوجود نظام مجتمعي ، فالجريمة تساوي المجتمع والمجتمع يساوي الجريمة ، وبما أنها ظاهرة طبيعية فلا يجب أن نبحث عن اسباب الجريمة في التكوين النفسي والعقلي أو البيولوجي ورفض ربط السلوك الاجرامي بتكوين المجرم بل قال أن الجريمة سلوك يكتسبه الإنسان من المجتمع الذي يعيش فيه باعتباره كائنا اجتماعيا فيه فالمجتمع هو الذي يصنع الجريمة من خلال ما يجرمه من افعال وسلوكات ، وقال بأن الجريمة هي ظاهرة طبيعية وصحية لإحداث التغيير الاجتماعي وبدون جريمة سيصاب المجتمع بالركود فالجريمة حسب دوركهايم ظاهرة مفيدة لتطور القانون والأخلاق في المجتمع وهي أمارة من أمارات تطور وتقدم المجتمع ، ثم قال إن الجريمة هي دليل على الحرية الموجودة في هذا المجتمع ، ثم يؤكد أن القانون الجنائي هو انعكاس لنوع النظام السائد في المجتمع ونعرف ذلك من خلال نوع العقوبات كتواجد العقوبات البديلة ومراكز الاصلاح والتأهيل والادماج ، فالمجتمعات البدائية مثلا كان قانونها الجنائي صارما وحشيا دمويا لا يعرف هذه العقوبات الحضارية ولا يعرف ثقافة إصلاح وإدماج المجرم بل يفكر فقط كيف يعاقب.

إذن حسب دوركهايم الجريمة ظاهرة مفيدة في المجتمع تساعد على تغير المجتمع وتطوره وتطور قوانينه ، فإذا قلت الجريمة في مجتمع ما فإن هذا المجتمع في خطر والخطر القادم أكبر من خطر وقوع الجريمة ، فيجب أن تسيل الدماء ليتكلم المجتمع ويقوم المشرع بتشريع القوانين والقضاء بتطبيقها وتدور الدائرة ، والفائدة الأخرى أن المجتمع يتغير حينما تظهر الجريمة ويتغير النظام أيضا ، فيمكن القول أن دوركهايم أعطى للجريمة أبعادا أخرى ونظرة جديدة حيث اعتبر الجريمة ظاهرة مفيدة صحية وضرورية لتغيير المجتمع والنظام السائد.

كل النظريات في علم الاجرام التي سبقت دوركهايم مثل لومبروزو ، فرويد ، سيلين ، فسروا الجريمة كأنها ظاهرة غير صحية وتعبر عن مرض أو خلل ما ، لكن دوركهايم اعتبر الظاهرة طبيعية عادية صحية بل واعتبرها مفيدة للمجتمع من أجل تطوره قانونيا وأخلاقيا وقال بأنه تفاجأ من دراسته ولم يكن يعلم أنه سيصل إلى هاته النتيجة ، وهو يجزم أن الجريمة مهما تنوع المجتمع ستبقى موجودة لأنه من المستحيل أن يتماثل الجميع للنظام فمن الطبيعي أن يخرج البعض عن النظام والتركيبة الاجتماعية .

اللانظام أو اللاقانون عند دوركهايم :

يقول دوركهايم بأن أهم تركيبات المجتمع تكمن في تماسكه ونظامه الاجتماعي بين أعضائه وهو ما يشكل الضمير الجماعي للمجتمع وخلص إلى أن هناك نوعين من التضامن آلي و عضوي .

التضامن الآلي :

كان يسود المجتمعات البدائية حيث كان يسود ضمير اجتماعي آلي متماسك متضامن اجتماعيا تحكمه القواعد القانونية السائدة ، وكان المجتمع يفرض جزاء ماديا إذا تم الاخلال بهذه القواعد ، ومن شأن هذا الجزاء تهذيب السلوك وضمان احترام التضامن الاجتماعي في المجتمع ، ويبدو  أن فكرة دوركهايم عن المجتمعات البدائية كانت تقوم على التضامن حيث كانت مجتمعات زراعية ، وهو عكس لومبروزو الذي ينظر إليها على أنها مجتمعات متوحشة وأن الإنسان البدائي إنسان متوحش فدوركهايم يعتقد أن المجتمعات البدائية كانت مجتمعات متماسكة متضامنة يسود بينها ضمير متحد متماسك ، سماه التضامن الآلي الاجتماعي ، وهذا التضامن يسوغه ذلك المجتمع على شكل قواعد قانونية ويفرض جزاء على من يخالف هذه القواعد و يكون جزاء رادعا ، إذن هي مجتمعات بدائية متضامنة تقل فيها معدلات الجريمة ويسود فيها نوع من الوحدة.

التضامن العضوي :

يسود المجتمعات الحديثة ، القائمة على تقسيم العمل، فهي مجتمعات صناعية حيث تضعف فيها عوامل التضامن الاجتماعي التي كانت تعرفه المجتمعات الزراعية البدائية ، هذه العوامل أثرت على القانون الجنائي وعلى قيم المجتمع وعوامل التجانس والتعاون ، هذه الاختلالات في تكوين المجتمع سوف تؤثر على فلسفة القانون الجنائي حيث انتقل من مركز الاهتمام من الضمير الجماعي إلى الضمير الفردي ، وأصبح القانون الجنائي يهتم بتعويض المجني عليه أكثر من اهتمامه بإلحاق العقوبة بالجاني ، فالقانون البدائي كان كل همه إلحاق العقوبة بالجاني بينما القانون الجنائي المعاصر تغلب عليه صفة تعويض المضرور ، وهو ما أدى إلى تراجع العواطف وإحساس الفرد بالعزلة المعنوية والاجتماعية الشيء الذي خلق اللانظام أو اللاقانون ، اي تحول المجتمع من مجتمع تضامني إلى مجتمع لا نظامي ، من مجتمع قانوني إلى مجتمع لا قانون ، والفرد في مجتمع اللانظام واللا قانون يحس بالتمرد على هذه القيم الجديدة لأنه يحس على أنها لا تلبي حاجياته الأساسية مما يخلق لديه حالة من اللانظام أو اللاقانون ، هذه الوضعية يسهل فيها ارتكاب الجريمة ، هكذا تزداد الجريمة كلما انتقلنا من مجتمع زراعي متضامن إلى مجتمع صناعي.

حاول دوركهيم أن يجعل من الموضوعية والعلموية والتجربة أهم مكونات نظريته السوسيولوجية بعيدا عن كل خطاب تاريخي أو فلسفي ، فآمن أن العلم هو مقياس كل شيء ولا جدوى للفلسفة في تفسير الواقع الاجتماعي ذي الطبيعة المركبة ، لهذا فقد أراد دوركهيم أن يؤسس علما جديدا هو السوسيولوجيا التي أرادها أن تكون على شاكلة العلوم الاخرى كالطب والفيزياء وقد واجه عقبات منهجية في معالجة الجريمة ودوافعها.

كان أول عمل تميز به دوركهايم هو تحقيق القطيعة مع النزعة الفردية التي سيطرت على الاعمال الفكرية في القرن 18 وقد تميزت بكونها قطيعة معرفية ) ابستمولوجية ( تنصرف الى دراسة الظواهر الاجتماعية ومدى تأثيرها في أفكار الفرد ، فهو لم يسلم بأن الفرد هو أساس تقييم الاشياء كما لم يسلم بأن المجتمع لا يتكون إلا من مجموع الافراد ، وخلص إلى وجود شيء آخر أطلق عليه الشيء الاجتماعي الذي يختلف عن سمات و مكونات كل فرد ، واعتقد بقوته التي تفوق مجموع قوات أفراده وعبر عن ذلك بالضمير الجماعي ، وهو ما جعل دوركهايم يعتقد أن المجتمع وجد قبل الفرد وله الأولوية والأسبقية ، لذلك فتأثيره قوي على الفرد ، بل ويمارس نوعا من القهر والالزام على الافراد ، و يوجب عليهم أن يضعوا سلوكهم في قالب معين ، هكذا يشعر الفرد بقوة رادعة إذا ما أراد الخروج عن العرف الاجتماعي فيضطر للخضوع للقهر الاجتماعي وقد وضع دوركهايم مجموعة قواعد رأها أساسية في هذا العلم وهي :

- تحديد موضوع علم الاجتماع تحديدا لا يجعل هذا العلم يختلط بأية دراسة علمية أخرى واعتبار الظواهر على أنها مجرد أشياء.

أي ان نلاحظ الظواهر الاجتماعية بتجرد و موضوعية ونكتشفها معرفة علمية مثلما نكتشف الظواهر الطبيعية دون تحيز.

- أن يكون موضوع علم الاجتماع من الموضوعات التي يمكن ملاحظتها وتفسيرها بالطرق العلمية.

- الدراسة العلمية للفعل الانساني لا يجب أن تقوم على أي حكم مسبق.

- يجب على الباحث أن يعمل للوصول الى صور متطابقة للحقائق متجنبا في ذلك كل تشويه ناتج عن ميولاته وأهوائه الخاصة.

واعتقد دوركهايم بأن الجريمة حالة طبيعية وضرورية لكل مجتمع متفاعل و يجب أن نعترف بها كمتلازمة للمجتمع الذي ينشد التطور والبناء ، وفسرها بأنها مرض اجتماعي يقابله ظواهر سليمة و يجب قبول الجريمة على أنها تعبير له وظيفته الاجتماعية وهو ظاهرة عادية طبيعية لعدة أسباب :

- وقوع الجريمة في المجتمعات ظاهرة مرضية عادية وتلازم اي مجتمع كيفما كان.

- تصبح غير عادية حين ترفتفع فوق المعدل المقرر لها.

- انخفاض الجريمة عن المتوسط يعتبر ظاهرة غير سوية وهو يدل على حالة قمع وقهر وخنق للتطور والابداع والابتكار.

- لا يمكن اعتبار الجريمة مرضية حينما لا تؤثر سلبيا في المهام الوظيفية للمجتمع حيث أنها من صفات المجتمع وتركيبته.

كما تحدث دوركهايم على مفهوم الانومية أو اللامعيارية واعتبرها سببا للانحراف الاجتماعي و تعني حالة اللاقانون أو اللانظام الذي يجد الفرد نفسه فيها ويجد الفرد نفسه عاجزا عن تحقيق الرغبات الطبيعية التي بدونها لا يمكن للحياة أن تستقيم أي الحد الادنى من الرغبات الضرورية أي أن المجتمع لا يستطيع توفير الحاجات والرغبات الضرورية للفرد فيدفعه للبحث عن هذه الرغبات عن طريق الجريمة نتيجة غياب معيار أو قاعدة يستند إليها في سلوكه السوي داخل المجتمع .

تجدر الاشارة إلى أن دوركهايم لم يدافع عن الجريمة لضرورة وقوعها في المجتمع وإنما نادى بضرورة الحفاظ على الحالة العادية والسوية في المجتمع ، وعلل ارتكاب الجريمة طبقا لما تقتضيه المؤسساتية وما تلزمنا به الحياة الاجتماعية ولا يرى أي مانع من توقيع العقاب على المجرم الذي يمس الضمير الجماعي ويمكن أن يكون مجرد لوم في حالة مس خفيف به ، هكذا أسس دوركهايم مدرسته السوسيولوجية التي ستعرف امتدادات وتأثيرات تجاوزت حدود فرنسا إلى العالم الجديد.

انتقاد نظرية دوركهايم

رغم أهمية هذه النظرية إلا أنها تعرضت لعدة انتقادات حيث اتهم دوركهايم بتشجيع الجريمة ، كما أن الربط بين استمرارية الجريمة وكونها ظاهرة طبيعية أمرين غير متلازمين فاستمرارية الجريمة لا تعني أنها ظاهرة طبيعية ، وتساءل البعض إذا كانت الجريمة ظاهرة طبيعية لماذا أجهد دوركهايم نفسه في البحث عن اسبابها ، ثم أن نظريته ربطت بين الجريمة وتنظيم المجتمع ولم توضح لنا الكيفية التي يصبح بها الفرد مجرما ، وإذا كانت تركيبة المجتمع تجعل بعض الافراد مجرمين فلماذا لا يرتكب البعض الآخر الجرائم .

نظرية روبرت ميرتون

روبرت ميرتون هو عالم أمريكي ، تأثر كثيرا بنظرية دوركهايم ، لكن ما يميزه هو محاولته الاجابة عن ما لم يجب عنه دوركهايم ، لماذا يرتكب البعض الجريمة ولا يرتكبها البعض الآخر ، رغم وجودهم تحت نفس الظروف الاجتماعية ونفس التركيبة الاجتماعية.

شكلت قفزة نوعية في الفهم العلمي لمشكلة السلوك المنحرف ، حيث تجاوز ميرتون العوامل المنعزلة والاهتمام بالبنية الاجتماعية وتناقضاتها ، واعتمد على نظرة متكاملة للمجتمع الأمريكي ، لذلك انطلق من تحليل بنية المجتمع الأمريكي ومحاولة معرفة الأسباب الحقيقية التي تدفع إلى الجريمة ، لذلك نجد ميرتون يصب كامل مجهوداته على البنية الاجتماعية و يحلل عناصرها ويدرس التفاعل الذي يحصل بين هذه العناصر وقد يؤدي إلى سلوكات متنوعة إما متمردة أو جانحة أو استسلامية ، وتوصل إلى حصر هذه الأنماط السلوكية اعتمادا على مفهوم اللامعيارية الذي يجعل المجتمع بدون معيار يعتمد الناس عليه لتحقيق رغباتهم فيضطرون إلى الاجرام.

لكن مفهوم الأنومية أو اللامعيارية عند ميرتون تختلف عن تلك التي عند دوركهايم ، حيث أنه يرجع سبب الجريمة إلى ردود فعل الفرد وتكيفه مع التناقضات التي تفرزها ثقافة المجتمع والمفاهيم المنبثقة عن بنية التنظيم الاجتماعي ، وحين فسر دوركهايم بأن اللامعيارية هي عدم استجابة المجتمع لنزوات الافراد ورغباتهم الطبيعية فإن ميرتون ذهب إلى أن أغلب هذه الرغبات والغرائز ليست بالضرورة طبيعية وإنما مجموعة من الاغراءات التي ينتجها المجتمع وتكرسها الثقافة السائدة وعدم توفير الامكانيات وإتاحة الفرص للجميع لتحقيقها وجعلها متاحة للبعض وصعبة المنال للبعض الآخر و محاولة الفئة المحرومة من تحقيق طموحاتها بالطريقة غير الشرعية بعدما حرمت ذلك بالطرق الشرعية.

والوسائل العلمية التي يعتمد عليها ميرتون لدراسة كل بنية اجتماعية تنحصر في أمرين :

الأهداف : فالمجتمع يحدد مجموعة من الأهداف التي يسعى جميع افراده لتحقيقها وتكون مرتبة وقف سلم من القيم متفاوتة الأهمية .

المعايير : وهي مجموعة من القواعد التي تحكم السلوك وتضبط وسائل الوصول إلى هذه الأهداف ، والمجتمع هو الذي يسهر على ضبط هذه الوسائل والطرق لكل صنف حسب قيمته الاجتماعية فهناك طرق مثلى وطرق مستحسنة وطرق ممنوعة . وعلى ضوء هذين العنصرين يحدد المجتمع القواعد السلوكية ، و سلوك الانسان مرتبط بمدى تلازم هذين العنصرين و ترابط العلاقة بينهما ، فكلما كانت الصلة متوازنة كانت السلوكات متوازنة ، لكن إذا حصل تأكيد على الأهداف مع تراخي في المعايير أي الوسائل هنا تصبح كل الوسائل صالحة للوصول الى الهدف فنكون أمام بنية مجتمعية غير متكاملة ومصابة بالخلل ، أما حين يحصل التوازن فنحن أمام سلوكات طقسية أما حين تعطي بنية المجتمع وزنا أكبر للأهداف على حساب المعايير تصبح النقود معيار كل شيء فتشجع الوصول الى الاهداف بطرق غير مشروعة فيتعرض المجتمع لحالة عدم انتظام ويحصل الانحراف بدل العدالة الاجتماعية وهي حالة المجتمع الأمريكي وقد نتج عن حالة اللامعيارية ظهور بعض الأفكار والنظريات التي حاولت أن تغطي النقص في شرح ظاهرة الانحراف مثل نظرية الصراع الثقافي عند تورستين التي تشرح السلوك غير السوي .

يقول ميرتون أن كل مجتمع له خاصيتين اساسيتين :

الخاصية الاولى : التركيبة الاجتماعية لكل مجتمع تتبنى أهدافا يطمح الجميع إلى بلوغها ، ففي المجتمع الأمريكي يطمح الجميع أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة ، فهو مشروع الجميع ، ربما قاضيا ، وزيرا رجل أعمال ، كلها أهداف يضعها المجتمع الأمريكي .

الخاصية الثانية : المجتمع يضع وسيلة لبلوغ هذه الأهداف ، فالقاضي يجب أن يدرس في كلية الحقوق ، إذن التركيبة الاجتماعية ترسم أهدافا وتضع لها وسائل مشروعة .

يقول مريتون أن هناك 5 احتمالات لتعامل الناس مع هذه القاعدة .

- التطابق : حين يقبل الفرد الغاية والوسيلة التي وضعها المجتمع لبلوغ الهدف ، هنا الشخص تلائم اجتماعيا حيث تطابق سلوكه مع القواعد التي ينظمها المجتمع ، فهو شخص لا يتمرد على الأهداف ولا على الوسائل ، هو شخص مثالي لا يخرق القانون ولا يمكن أن يجرم .

- تحديد : وهي حالة قبول الهدف ورفض الوسائل ، وهي حالة المجتمع حين يضع الأهداف ويضع الوسائل لكنها تكون في صالح الطبقة العليا وليست في صالح الطبقة الدنيا مما يدفع أفراد هذه الطبقة إلى ارتكاب الجريمة ، فنقابة المحامين مثلا تضع شرط عدة ملايين سنتيمات تدفع لنقابة المحامين لكي يحصل الناجح في مباراة المحاماة على تزكية النقابة ويستطيع ممارسة المهنة .

- التعلق بالطقوس : الشخص يرفض الهدف ويقبل بالوسائل لكنه يكون في حالة عدم شعور بالطموح والرغبة في التغيير ونيل ما هو أحسن ، هي الطبقة الوسطى في المجتمع ، يقبلون باوضاعهم غالبا ويرضون ولا يكون لديهم أي طموح ، يعيش عاديا ويموت عاديا المهم عنده أن يأكل الخبز ويعيش بسلام ولا يدخل في صراع مع المجتمع أو النظام ، فهو لا هدف له ولا طموح ولا يتصور أن يخرق القانون .

- التراجع : يقبل بالهدف وبالوسيلة المؤدية إليه لكنه يفشل في الوصول إلى أهدافه بالطرق المشروعة وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يلجأ إلى أهدافه بالطرق غير المشروعة ، يحدث هذا في الطبقة المنبوذة اجتماعيا ، المتشردون ، المنبوذون ، المتسولون ، مدمنو المخدرات ، هذا النوع من الفئات لا يرتكبون الجرائم .

- التمرد : رفض الأهداف والوسائل ومحاولة إقامة نظام اجتماعي جديد مغاير ، هم الثوار ، هذه الفئة حسب ميرتون ترتكب الجرائم في سبيل الوصول إلى الأهداف.

انتقاد انظرية ميرتون :

نظرية ذات طابع نظري محض ، ولم تعتمد على تجارب وأبحاث علمية للتأكد من صحة فرضياته وهو يضع 5 فرضيات لنظريته لكنه لم يقم أبدا بأي تجربة علمية أو بحث علمي للتأكد من صحتها ، رغم أن زمن النظريات الفكرية قد انتهى مع عهد لومبروزو وكل نظرية لا تعتمد على أبحاث علمية وتجارب للتأكد من صحتها تبقى مجرد نظرية لا مكان لها من الصحة .

النظرية الاقتصادية في علم الاجرام

النظرية الاقتصادية أو التحليل الاقتصادي رائد هذه النظرية ماركس و إنجل ، عرفت اتجاها جديدا لشرح الاجرام الذي أصبح مرتبطا بالعالم الاقتصادي ، فتبعا للنظرية الاشتراكية فإن الواقع الاقتصادي والمادي هو الذي يحدد افكار الانسان وبالتالي ميولاته الاجتماعية والثقافية ، وبعبارة أدق فالنظام الرأسمالي هو السبب في انتشار الجريمة ، ويفترض أن المجتمع الاشتراكي تنعدم فيه الجريمة.

سوف نقوم بتحليل السلوك الاجرامي انطلاقا من تحليل أو مقارنة نظامين اقتصاديين أو سياسيين هما النظام الاشتراكي والرأسمالي ، و ربط الظاهرة الإجرامية بمختلف الأوضاع الاقتصادية وإعطاء  الجريمة تفسيرا اقتصاديا ، هذا التصور تطور على يد كارل ماركس و فريدريك على اثر اعلان البيان الشيوعي الصادر سنة 1948 .

النظرية الاشتراكية في علم الاجرام

حاولت اعطاء تفسير للظاهرة الاجرامية من خلال ربط السلوك الاجرامي بميكانزمات الرأس مال وأهمها الملكية الخاصة والمنافسة الحرة و العرض والطلب ، مبدأ الحتمية الاقتصادية يخلق الجريمة ، بل هو العنصر الوحيد الذي يخلق الجريمة حسب نظر الاشتراكيين ، والنظام الرأسمالي هو الشيطان الوحيد في هذا العالم وهو منبع كل الشرور بما فيه الجريمة ، ففي نظر ماركس الملكية الفكرية والمنافسة الحرة و العرض والطلب وتقسيم المجتمع الى طبقة عاملة فقيرة تزداد فقرا وطبقة غنية تزداد غنى و تتحكم في الاقتصاد.

يقول كارل ماركس إن الجريمة تتولد من زاويتين :

الزاوية الأولى : رغبة الطبقة الرأسمالية في تحقيق اقصى ربح يدفعها الى ارتكاب جرائم من قبيل الرشوة والتهرب الضريبي والجمركي و تهريب الأموال والغش وعدم الحرص على حماية المستهلك ، فمن أجل تحقيق الربح يتم التعسف على جميع القوانين بصفة عامة والقانون الجنائي بصفة خاصة فيصير القانون في خدمتهم ، لأن رجال الأعمال يتدخلون في صياغة القوانين وتشريعها مثلا قانون حماية المستهلك في المغرب ظل 30 سنة لا تستطيع الدولة تمريره لوجود صعوبات تتمثل في ضغط رجال الاعمال على المشرع كي لا يتم تفعيل هذا القانون ، كما أن القانون يتعامل بانتقائية كبيرة فرجل الأعمال الذي يرتكب جريمة يحكم عليه بعقوبة بسيطة بينما الفقير يحكم عليه بعقوبات مشددة ، فليست هناك معاملة بالمثل ، لذلك يقال من يملك المال يملك القانون .

الزاوية الثانية : اقدام الطبقة الكادحة على ارتكاب الجرائم للحصول على المال وقضاء حوائجهم اليومية من أجل العيش وأحيانا انتقاما من الطبقة الغنية الاستغلالية ، فالشعور بالحرمان والإقصاء وعدم تكافؤ الفرص كلها تدفع الى ارتكاب الجريمة .

تقييم النظرية الاقتصادية

لا أحد ينكر أن هذه النظرية لامست زوايا حقيقية وأن الظروف الاقتصادية تؤثر بشكل واضح على الافراد وتدفعهم الى ارتكاب الجريمة من حيث الكيف والكم وأن انتقال المجتمع من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي ساهم أيضا في انتقال الجريمة من جريمة تعتمد على القوة العضلية إلى جريمة تعتمد على الذكاء و الحيل ، كجرائم الشركات والبورصة والتهرب الضريبي والتزوير والجرائم الالكترونية ، هذه الجرائم تبقى غير قابلة للبروز وهي جرائم اقتصادية جرائم اقتصادية لكنها تدخل ايضا في المجال السياسي والقوانين دائما ما تقوم بحماية أصحاب هذه الجرائم .

يعاب على هذه النظرية أن العامل الاقتصادي لا يصلح وحده لتفسير الجريمة ولو أصاب جزءا من الحقيقة ولو كان العامل الاقتصادي وحده الذي خلق الجريمة لما أجرم الناس في المجتمعات الاشتراكية وظلت الجريمة قاصرة على المجتمعات الراسمالية ، بالمقابل هناك الكثير من الناس في مجتمعات راسمالية ولا يرتكبون الجرائم رغم ظروفهم الاقتصادية الصعبة ، لذلك يمكن القول أن نظرية ماركس هي نظرية خاطئة لأنها اقتصرت على العامل الاقتصادي وحده في تفسير الظاهرة الاجرامية ، خصوصا أن ليس كل الجرائم دافعها اقتصادي ، فجرائم الاغتصاب والقتل والاعتداء والجرائم الأخلاقية لا يلعب فيها الاقتصاد أي دور.

النظرية البيئية في علم الاجرام :

هذه النظرية تقوم على ربط الجريمة بالبيئة المحيطة بالإنسان فقد قام بيير شو بدراسة على وسط مدينة شيكاغو ولاحظ أن الجريمة تقل كلما ابتعدنا عن وسط المدينة ، ولاحظ أن أعلى معدلات الجريمة تحدث في الأماكن المكتظة بالناس والواقعة بالقرب من مراكز الاعمال والمفككة اجتماعيا ، شيكاغو كانت مدينة اقتصادية وكان الكثير يهاجر إليها من أجل العمل فجمعت العديد من المهاجرين من شتى المناطق ، فحدث اختلال اجتماعي ، واختلاف ثقافي و عرقي مما أحدث تفككا اجتماعيا ، هذا الخليط غير المتجانس نتج عنه صراعات اجتماعية ، كما لاحظ أن معدل الجريمة يرتفع في الاماكن المهجورة التي هجرها سكانها الأصليون وحل محلهم سكان هامشيون مثل الافارقة الأمر الذي يدفع للجريمة .

تقييم النظرية البيئية :

اعتمد شو في دراسته على منهج علمي وهو الأسلوب الإحصائي و ركز على المناطق التي يكثر فيها الناس والاعمال الجريمة قد تحدث حتى في الأماكن التي يعيش سكانها في رغد من العيش ، لذلك قال بعض المفكرون أنه يجب إخراج الطبقات الفقيرة و المهاجرة من المدن الكبرى لمناطق هامشية بعيدا عن مراكز المال والاعمال حتى لا تحدث الجريمة ، مثال ذلك الأحياء التي يسكنها الافارقة في طنجة ، لكن يبقى طلبا غريبا من علماء القانون الجنائي ولا يمكن أن تستجيب له السياسة الجنائية ، ثم أن شو قال بأن الجريمة تحدث في مراكز المال والأعمال والمراكز التجارية الكبرى وكلما ابتعدنا عنها قلت الجريمة ، لكن هل هذا صحيح ؟ فربما يكون نشاط الشرطة في هذه المدن كثيفا أكثر من المدن الهامشية فتظهر الجرائم وتضع الشرطة يدها عليها بينما يتعذر ذلك في المدن الصغرى ولا تصل إلى يد الشرطة يعاب أيضا على هذه النظرية أنها لم تعط تفسيرا متكاملا لكل أنماط الجرائم وإنما اقتصرت على نمط إجرامي معين .

النظرية العرقية في علم الاجرام :

سيلين هو عالم أمريكي ، وعموما جميع علماء التركيب الاجتماعي هم أمريكيون ، درسوا الجريمة انطلاقا من المجتمع الأمريكي الذي يعتبر خليطا من العديد من الثقافات ، لذلك فتفسير الجريمة في المجتمع الأمريكي يختلف عن التفسير في المجتمع الاوروبي أو المغربي . النظرة العرقية حاولت ربط السلوك الاجرامي بالجنس والعرق واللون ، وحاولت إقناعنا بأن بعض الأعراق أقرب الى الجريمة من الأعراق الأخرى ، فالسود مثلا ترتفع لديهم معدلات الجريمة وبالمقابل يقل مستوى الجريمة في الصين واليابان وفسروا ذلك أن هذه المجتمعات تتميز بنظام متماسك وأخلاق وتركيبة اجتماعية محصنة قوية ومتماسكة في المقابل هناك هشاشة في التركيبة الاجتماعية لدى طائفة السود .

انتقاد النظرية العرقية :

في العصر الحديث لا يمكن لعنصر معين أن يكون السبب في الجريمة ، ويمكن اعتبار هذه النظرية قاصرة واقتصرت على الزنوج ولا يمكن تعميم النتيجة ، فالإنسان الابيض ايضا يرتكب الجرائم ويمكن القول أنها نظرية عنصرية أغفلت جانبا مهما وهو أن نظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة يشجع السود على ارتكاب الجرائم حيث يعانون الفقر والبطالة والتفكك الاجتماعي والعنصرية كما أن ظروفهم الاقتصادية صعبة ويعانون من الحيف في تطبيق العقوبة الجنائية فالرجل الأبيض تبقى له امتيازات جنائية ، ثم أن نشاط الشرطة يزداد في مناطق السود أكثر من مناطق البيض والقضاة دائما يكونون من السكان البيض مما يجعل احتمالية التعسف في الحكم قائمة ، فعندما يكون الأبيض مجرما يتم التعامل معه بمحاباة بينما يتم توقيع أقسى العقوبات على المجرم الاسود .

نظريات التركيب الاجتماعي على الرغم من أهميتها تبقى دراستها منطلقة من تركيبة ونظام المجتمع بعيدا عن التفسيرات البيولوجية والنفسية ، ومع ذلك تبقى قاصرة عن اعطاء تفسير موحد للظاهرة الاجرامية ، فليس هناك تلازم بين الجريمة والمعيشة في ظل تركيبة اجتماعية معينة ، بمعنى أن نظريات التركيب الاجتماعي قد فشلت فشلا ذريعا في الاجابة عن السؤال الجوهري والأساسي " لماذا يرتكب الإنسان الجريمة في نظام اجتماعي معين دون آخر .

نظرية الكيفية الاجتماعية في علم الاجرام :

هذه النظرية تبحث في الطريقة التي تصير بها الإنسان مجرما ، وهي تنقسم إلى العديد من النظريات سنقف فقط عند نظرتين الاولى نظرية التقليد عند كابرييل تارد والثانية نظرية الاختلاط الفارق لساندرلاند .

نظرية التقليد عند كبريال تارد :

كبريال تارد هو قاض وعالم اجتماع فرنسي وهو أستاذ لعلم الاجتماع ، عاش ما بين 1834 – 1904 الفكرة الجوهرية التي تقوم عليها نظريته هي أن الجريمة ليست سلوكا موروثا وإنما هي سلوك مكتسب وأن الانسان لا يولد مجرما وإنما يكتسب السلوك الاجرامي ، وهو ما يشكل نقيضا لنظرية لومبروزو والاتجاه البيولوجي عموما ، فهو يقول اي كبريال كارل أن الانسان يندفع إلى ارتكاب الجريمة تحت تأثير عوامل اجتماعية أهمها التقليد ، حيث يتم تقليد المجرمين في سلوكياتهم ، هذه النظرية قد تكون أجابت عن جانب من الحقيقة لأن هناك بعض الأشخاص في المجتمع ارتكبوا جرائم لأنهم يمثلون نموذجا اجتماعيا سيئا ، لكن ما يعاب على هذه النظرية أنها أحادية الجانب ، فهي لا تستطيع أن تفسر لنا كل أنماط الجريمة ، ثم إغفالها للعوامل النفسية والبيولوجية والعقلية التي تدفع الانسان نحو السلوك الاجرامي .

غابرييل تارد هو النقيض لدوركهايم في مدرسة المحيط الاجتماعي حين يتعلق الأمر بشرح أسباب الظاهرة الاجرامية ، فهو يختلف معه في الأصل وفي التكوين وفي الفلسفة .

ألف كتبا أهمها الاجرام المقارن و الفلسفة العقابية و قوانين التقليد و دراسات جنائية واجتماعية ، ويبقى كتابه الفلسفة العقابية متميزا نظرا لأهميته المنهجية حيث عمد فيه طارد إلى التصدي لمزاعم المدرسة الوضعية خاصة العضوية وفند حججها بالدليل والتحليل العلمي ، هكذا صفى حساباته مع المدرسة العضوية علميا ومنهجيا ثم هيأ الأرض لنشر أفكاره العلمية حول الجريمة بعيدا عن فكرة المجرم بالولادة .

يتوقف غابرييل تارد عند المحيط الاجتماعي ويعتبره سببا مهما في تحديد سلوك المجرم ، ويلفت الانتباه إلى أن أغلب المجرمين عاشوا بطفولة تعسة وعانوا من الحرمان العاطفي ورقابة الاسرة مما جعلهم يلجأون للاجرام من أجل العيش ، كما أن المدنية تجعل الجريمة تعتمد أكثر على الدهاء والغدر والخبث ، ويعطي طارد وصفا دقيقا للمجرم فيقول عنه بأنه شخص عود نفسه منذ صغره على الكراهية والحقد والحسد وأغلق على نفسه باب الرحمة والعطف ، كما أنه تمرس على تقبل الصدمات وتخزينها وتحمل الشدائد والصعاب ومختلف أشكال المعاناة ، حتى تبلد الحس والشفقة لديه مما أفقده كل مشاعر الرحمة نحو الآخرين وكنتيجة لهذا التكوين النفسي الاجتماعي ينمو هذا الفرد متحفزا لارتكاب الجريمة 29 والشرور والعنف ويكون محظوظا إلى لم يرتكب جريمة قتل في حياته ، هكذا يقول طارد بأن احتراف الجريمة يتطلب تدريبا مثلها مثل أي حرفة من الحرف مع فارق بسيط هو ان المجرم يتربى في بيئة إجرامية تساعد على انخراطه في عالم الجريمة .

ويلاحظ أن غابرييل تارد بقي متشبثا بقانونه الأخلاقي الذي ربطه بالجريمة واعتبر أن مستوى الاجرام هو المؤشر الحقيقي للأخلاق في مجتمع معين وهذا التلازم بين الأخلاق والجريمة يعكس اعتقاده الراسخ أن دائرة الأخلاق ودائرة القانون هما متماسكتان لا تقوم الواحدة دون الاخرى.

وقد اعتمد طارد على فكرة التقليد وجعل لها قوانين تحكمها لتشرح ميكانيزمات الجريمة ، وهذه المقومات تنبع من مقومات علم النفس الاجتماعي الذي يكشف عن استعداد الافراد للمحاكاة وتقليد بعضهم بعضا في السلوك الاجرامي ، هكذا يرى تارد أن قانون التقليد مسؤول عن انتاج مجرمين ، هذا القانون يتكون من 3 قواعد ، الاولى تقتضي أن التقليد يذهب من الداخل للخارج أي أن الطفل يقلد الانسان القريب أسبق من تقليده للإنسان البعيد فالطفل يقلد الاقربين ويصبح مجرما ، القاعدة الثاني فتفيد أن التقليد يأخذ طريقه من القوي إلى الضعيف أي أن الافراد ذوو المكانة المرموقة يؤثرون في أصحاب المكانة الاجتماعية العادية فيقلد المجرم رؤسائه في العصابة ، أما القاعدة الثالثة فتركز على وجود موضات داخل فكرة التقليد نفسها بالضبط كما يوجد موضة في الملابس ، الموضة الجديدة تطرد الموضة القديمة وتأخذ مكانها فالاجرام يتطور ويفرض نفسه على المجرم بالوسائل الجديدة كخطف الطائرات .

نظرية الاختلاط الفارق في علم الاجرام ل سذرلاند :

هو عالم اجتماع أمريكي واستاذ بالجامعة الأمريكية ، صاغ نظريته سنة 1939 ، وأكملها فيما بعد سنة 1950 دونالد كريستي ، حيث قالت النظرية بأن الشخص لا يولد مجرما وإنما يكتسب الاجرام ، فالسلوك الاجرامي سلوك مكتسب وليس موروثا ، وهو يتم عن طريق التدرب والتعلم فهي صنعة يتم احترافها بعد تعلمها ، فالجريمة لا تقع بصفة تلقائية اعتباطية وإنما هي مكتسبة بعد الاختلاط بمجتمع الفاسدين والاحتكاك بالمجرمين والتعلم منهم والتدرب على يدهم واقتباس سلوكياتهم الإجرامية ، والفرد يصبح مجرما بعد أن يتغلب لديه التفسير المخالف للقانون على التفسير المطابق للقانون ، و حينما يختلط مع جماعة تحرص على احترام القانون تقوى لدى هذا الشخص المناعة وعندما يختلط الشخص مع نماذج المجرمين والأشرار في المجتمع فسلوك الجريمة ينتقل إليه بالتعلم والتدرب شيئا فشيئا وهو ما سماه ساذرلاند بالاختلاط الفارق ، لأن هناك فرقا بين من يختلط مع جماعة الفاسدين وبين من يختلط مع جماعة الصالحين ، حيث تقوى مناعته ضد الجريمة ، ويتعلم الاخلاق والانضباط .

صاغ ساندرلاند نظريته الجديدة ثم أضاف إليها صنفا جديدا من الجرائم سماها جرائم أصحاب الياقات البيضاء ، حيث يتبوؤون مراكز اجتماعية راقية كالوزراء والمسؤولين والبرلمانيين وقد لاحظ أن علم الاجرام يركز دائما على الطبقة الضعيفة ولا يتطرق لجرائم هؤلاء النخبة وربما كانت جرائمهم أكثر تأثيرا من جرائم سرقة قطعة خبز ، فالجرائم الوزراء والبرلمانيين تعتبر ذات تأثير قوي على المجتمع و يتأثر بها آلاف الناس أو ربما ملايين ، لذلك يرى ساندرلاند أن جرائم أصحاب الياقات البيضاء أخطر من جرائم المجرمين البسطاء ، وقال أن إجرام أصحاب الياقات البيضاء هو إجرام خفي مستتر لا يظهر ولا يثير اضطرابا اجتماعيا كجريمة القتل في الشارع مثلا ، واستحالة الاحالة أو البروز ، وقال أن  أصحاب الياقات البيضاء يتصرفون و كأنهم فوق القانون وغير ملزمين به ولا يطبق عليهم ، وأنهم جديرون بالاحترام بخلاف المجرم البسيط الذي يحس أنه تحت مظلة القانون ، كما أن مجرمي الياقات البيضاء يبحثون عن الثغرات وربما هم من يصنعونها عند التشريع خدمة لمصالحهم الشخصية ، حيث أن مكانتهم تسمح لهم بالتدخل في القرار السياسي أو التشريعي وسن القوانين ويملكون زمام السلطة التشريعية وقد قيل " من يملك الاقتصاد يملك القانون " حتى القانون الجنائي جاء ليحمي مصالحهم ، أما جرائمهم فترتكب غالبا بعيدا عن أعين الناس في مكاتب مغلقة و تحت الكواليس و يصعب إحالتها إلى أجهزة العدالة بل وربما كانت أجهزة العدالة متواطئة معهم شأنها في ذلك شأن باقي أجهزة الدولة التي يتحكمون فيها وفي أجهزتها السياسية والتشريعية .

قال سذرلاند إن الاتجاه البيولوجي والنفسي عجز عن تفسير هذا النوع من الإجرام فأصحاب الياقات البيضاء ليست لديهم عيوب خلقية بل تجدهم في أحسن صحة و رغد عيش ويتمتعون بلباقة وحسن مظهر ولا تظهر عليهم أي عيوب خلقية عضوية ، والغاية من جرائمهم ليست بسبب العيوب العضوية أو النفسية بل بسبب الطمع في الربح والثراء الفاحش فهم يرتكبون جرائمهم من أجل الحفاظ على السلطة التي بدورها تخول لهم الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية و تعطيهم فرصة للتهرب الضريبي واستغلال السلطة من أجل تمرير القوانين التي تخدم القطاعات الاقتصادية التي ينشطون فيها ، فكل همهم هو الحفاظ على مراكزهم و مناصبهم و تحقيق أكبر قدر من الربح .

يعتبر ساذرلاند أول من حاول تمثيل المدرسة الامريكية لعلم الاجرام ، وهو يرى أن السلوك الاجرامي لا يعود فقط للعوامل الاجتماعية أو النفسية أو الفقر بل حتى الاغنياء يسرقون ويقتلون فالسلوك الاجرامي يتعلمه الاغنياء والفقراء على حد سواء ، بطريقة واحدة وبعمليات متشابهة ، وقد حاول أن يجد النظرية العامة اعتمادا على الدراسات المنطقية وآليات التوجه نحو الانحراف والانخراط فيه ، وتقوم نظرية الاختلاط الفارق التي توصل إليها على محاولة شرح السلوك الاجرامي المتعلق أو الملقن أو المكتسب الذي يظهر نتيجة صراع بين معايير الثقافات المختلفة التي تكون منها المجتمع الامريكي ، هذا السلوك المنحرف يظهر حينما تطغى المعايير الجانحة في جماعة على المعايير المتكيفة التي تحكم المجتمع الكلي ، و مراحل هذه العملية ضمنها سوزرلاند في كتابه مبادئ في علم الاجرام وهي :

- السلوك الجانح مكتسب يلقن ويتعلم وليس وراثيا .

- السلوك الجانح مكتسب عن طريق التواصل والاحتكاك بالآخرين وهو لفظي وشخصي ويمكن أن يكون بالمثال والقدوة .

- يتعلم السلوك الجانح في جماعة محصورة تتميز بالعلاقات المباشرة والشخصية أما وسائل الإعلام فلا تساهم إلا بدور ثانوي .

- يشمل التدريب على الانحراف تعلم تقنيات ارتكاب الجنح وتوجيه الدوافع نحو الانحراف .

 انتقاد نظرية ساذرلاند :

أول انتقاد لهذه النظرية هو عجزها عن تفسير السلوك الاجرامي للطبقة العليا الذين لا يخالطون المجرمين ، ثم عجزها عن كشف حقيقة الجرائم التي تحدث جراء الانفعال أو مرحلة الطفولة أي قبل أن يخالط الإنسان من هو أكبر منه ليتعلم منه ، لأنه قال أن الاختلاط الفارق هو السبب في ارتكاب الجرائم وإذا كان الاختلاط الفارق هو السبب في تعليم السلوك الاجرامي فكيف نفسر سلوك المجرم الأول فمن علمه فن ارتكاب الجريمة ؟ ولماذا بعض الناس رغم اختلاطهم بالمجرمين لا يقدمون على ارتكاب الجريمة ، والعكس صحيح فبعض الناس يتربون في بيئة سليمة ويعاشرون الصالحين ومع ذلك قد  يرتكبون الجرائم ، ولماذا لا يصبح المسؤولون عن إدارة السجون وعائلات المجرمين مجرمين أيضا فهم أكثر احتكاكا بالمجرمين ؟ والقول إن الجرائم تُتعلم منطق غير سليم فجرائم القتل والسرقة والاغتصاب لا تحتاج أي تعليم ، يمكن القول أن هذه النظرية غير قادرة على اعطاء تفسير شامل للظاهرة الاجرامية .

اتضح لنا من خلال دراسة الاتجاه الاجتماعي بنظرياته المتعددة أنه يربط الظاهرة الاجرامية بعامل واحد بعينه فكل نظرية ركزت اهتمامها على عامل واحد وأغفلت باقي العوامل فكانت نظريات أحادية النظرة أهملت العوامل الاخرى وكانت تعطي تفسيرا جزئيا لنمط معين من الجرائم ، لكن كلهم اتفقوا على الحتمية الاجرامية ، هذه العوامل ساعدت في نشوء اتجاه جديد هو الاتجاه التكاملي في تفسير الظاهرة الاجرامية ، من أجل الخروج من مأزق أن كل اتجاه ينظر إلى السلوك الاجرامي من زاويته الأحادية فعالم الاجتماع ينظر للجريمة من منظور المجتمع ، والاقتصادي ينظر للجريمة من زاوية الاقتصاد ، والطبيب ينظر للجريمة من زاوية العيوب البيولوجية وعالم النفس ينظر إليها من جانب النفسية ، كل عامل من هؤلاء ينظر للجريمة من زاويته ويغفل العوامل الاخرى .

الاتجاه التكاملي  في علم الاجرام :

سنركز في هذا الاتجاه على نظريتين ، نظرية فيري ثم نظرية دي توليو .

نظرية العوامل المتعددة عند فيري :

فيري عالم اجتماع وأستاذ للقانون الجنائي وأحد رواد المدرسة الوضعية ، كان طالبا لدى لومبروزو لكنه انتقد مبالغته في إظهار العوامل البيولوجية الجسدية العضوية ، نظريته تقول أن الجريمة هي ثمرة حتمية نتيجة تفاعل ثلاثة عوامل :

- عوامل أنثروبولوجية : هي المتعلقة بالجوانب البيولوجية والنفسية أو تلك المتعلقة بالشخصية كالمهنة والحالة العائلية .

- عوامل طبيعية : كالجغرافيا و نوع التربة وحرارة الجو ، فجرائم العنف تقع في المناطق الحارة بينما جرائم السرقة تقع في المناطق الباردة .

- عوامل اجتماعية : المحيط ، البيئة الاجتماعية ، تركيبة السكان ، المعتقدات الدينية ، الإنتاج الصناعي ، مستوى التعليم ، النظام الاقتصادي والسياسي.

هذه العوامل إذا ما تفاعلت أي العوامل الطبيعية والجغرافية والاجتماعية نتج عنها عدد معين من الجرائم لا يزيد ولا ينقص ، وفي بعض الأحيان يقع حدث عارض كالحروب أو الزلازل أو الثورة السياسية فتزيد فرص الجرائم ويرتفع معدل الجريمة عن حجمه الطبيعي وحالما تزول هذه العوارض تعود الجريمة إلى معدلاتها الطبيعية.

أول ما يحسب لنظريته هو نظرتها الشمولية في تفسير السلوك الاجرامي ، لذلك كانت ضمن الاتجاه التكاملي ، عكس النظريات السابقة التي رأيناها ، ولعل ما ميزها بكونها نظرة تكاملية هو أنها تتفاعل وتتكامل فيها العديد من العوامل المتنوعة والمختلفة.

هذا الاتجاه جاء بتحول جذري في السياسة الجنائية المعاصرة لمواجهة الظاهرة الاجرامية ، حيث يجب الاعتماد على سياسة وقائية اجتماعية ثقافية اقتصادية لمحاربة الجريمة ، ففي طريق مظلم ترتفع نسبة الجريمة وعوض زيادة عدد الشرطة لم لا  نفكر في إضاءة هذه الطريق عوض أن تبقى مظلمة فتقل نسبة الجريمة فيها ، و نعالج المشكل من جذوره ، وكأن فيري يتساءل من يصنع الجريمه ؟ هل هي وزارة العدل ؟ الداخلية ؟ أم هي مسؤولية باقي السياسات العمومية ؟ ثم يقول إن الجريمة هي مسؤولية المجتمع بأسره ، وكل السياسات العمومية في كل القطاعات كالتعليم والصحة والتشغيل هي مسؤولة عن ارتكاب الجريمة ، حسن تتقاعس عن أداء وظيفتها ، كل ذلك ينعكس على معدلات الجريمة بشكل مباشر ، يقول فيري إن الحل ليس في القانون الجنائي وفي الزجر بل في اعتماد سياسات وقائية تمس كل القطاعات العمومية في الدولة من أجل مواجهة الجريمة.

فطن فيري إلى تركيبية السلوك الاجرامي فخالف أستاذه لومبروزو في فكرته بالانحطاط الوراثي والعامل العضوي فذهب فيري إلى الاعتماد على نظريات لم تكن موجودة في عهد لومبروزو ، ومن هذا المنطلق المعتمد على تظافر الكثير من النظريات حاول فيري أن يقيم أسس نظريته السوسيولوجية في الجريمة في كتابه " علم الاجتماع الجنائي " الذي شرح فيه أن الجرائم ترتكب إما بواسطة التكوين الفردي للإنسان وإما بتأثير من العوامل الخارجية سواء انت اجتماعية أو طبيعية ، وقد ذكر من بين العوامل توزيع الأراضي والمناخ واختلاف العقول وما يتبع ذلك من اختلاف في عدد السكان والهجرة والتقاليد الاجتماعية والدينية ومستوى التعليم والصحة وطبيعة كيان المجتمع العائلي والسياسي والاقتصادي ، هكذا لم يقتصر فيري على شخص المجرم كما فعل لومبروزو.

خلص فيري من خلال دراسته إلى ظاهرة التشبع الاجرامي بمعنى أن بيئة اجتماعية في ظروف صحية معينة لا تحتمل أكثر من درجة معينة من الاجرام وأن نسبة الاجرام ترتفع حتى تصل إلى درجة معلومة لا يمكن أن تتعداها ، وقال بضرورة الوصول إلى درجة التشبع الاجرامي بأقل خسارة وأسرع ما يمكن معللا ذلك بالطريق المظلم الذي يساعد على الجريمة بينما لو كان هناك مصباح يستبعد وقوع الجريمة هناك ، وهي حيلة أكثر ذكاء من إنشاء سجن كبير ، والهدف هو الحماية أفضل من العلاج ، وتحسين مستوى المعيشة أجدى من السجن وأفضل من المشنقة ، و يرى فيري أن التشبع الاجرامي هو وليد العوامل الطبيعية التي تقوم الحياة الاجتماعية عليها ، ونسبة الجريمة تتأثر بهذه العناصر الطبيعية سلبا أو إيجابا ، واشار فيري أن درجة التشبع الاجرامي يمكن تجاوزها في حالة الحروب أو الكوارث أو الفوضى الاجتماعية وعبر عنه بقانون ما فوق التشبع الاجرامي ، هكذا حاول فيري ان يعطي شرحا علميا وافيا للجريمة وأن يربطها بجذورها الاجتماعية ويكون بذلك قد أسس للمدرسة السوسيولوجية في علم الاجرام التي عرفت صيتا ذائعا ، هكذا يكون لومبروزو قد أسس الأنثروبولوجيا الجنائية بينما تكلف فيري بإنشاء أسس علم الاجتماع الجنائي .

انتقاد نظرية فيري :

ما يعاب على نظريته هو تبنيه فكرة الحتمية الاجرامية باعتبارها فكرة ثقيلة على علم الاجرام لا تتفق مع كون علم الاجرام من العلوم الإنسانية التي تتميز بالنسبية وليس من العلوم التطبيقية الطبيعية القطعية .

كما أن النظرية التكاملية ل فيري تشوه صورة البحث العلمي لأن منطق هذه النظرية يلزم الباحث في علم الاجرام على القيام بإعداد الأسباب والعوامل والمقدمات التي تدفع إلى السلوك الاجرامي دون أن تعطي لنا العامل الحاسم الفعال الرئيسي للاندفاع نحو السلوك الاجرامي ، فيري قال أن السلوك الاجرامي سببه خليط من العوامل النفسية والبيولوجية والاجتماعية والاقتصادية والطبيعية دون تحديد السبب الحاسم ، فيجب أن نعطي السبب الحقيقي بما أنه علم وبحث علمي أما أن نقول انها مجموعة عوامل فهو أمر يشوه صورة البحث العلمي ويعتبر مجرد تجميع للعلوم الاخرى.

نظرية الاستعداد الإجرامي عند دي توليو :

دي  توليو هو طبيب إيطالي ، صاغ نظريته في مؤلفه المشهور الأنثروبولوجيا الجنائية ، أي علم طبائع المجرم سنة 1754 ، عرفت هذه النظرية بنظرية الاستعداد الاجرامي ، وتعتبر من أشهر النظريات التكاملية في تفسير الظاهرة الاجرامية ، حيث قال أن كل الناس لديهم غرائز طبيعية اساسية فطرية كحب البقاء و حب التملك وحب المال و الجنس ، سماها العوامل الدافعة للجريمة بالغرائز الجنسية تؤدي إلى جرائم الاغتصاب مثلا والزنى و غريزة التملك تؤدي إلى جرائم السرقة وغريزة البقاء تؤدي الى جرائم القتل ، فأي غريزة معينة هي سبب لارتكاب جريمة معينة هذه الغرائز تتهذب بفضل عناصر مكتسبة منذ الطفولة عن طريق التعليم والثقافة واكتساب القيم الاخلاقية والعقائد الدينية فيؤدي ذلك الى نشوء غرائز اساسية ثانوية ثانية سماها دي توليو العوامل المانعة من الجريمة أو القوى المانعة من الجريمة.

فأنت أيها الإنسان لديك غرائز أي عوامل دافعة للاجرام لكن تلك الغرائز بفضل التربية والثقافة والتعليم والقيم الاخلاقية والدينية تقوم بتهذيب تلك الغرائز الأساسية فينشأ ما يسمى بالقيم الأخلاقية أي الغرائز الثانوية الثانية سماها بالقوى المانعة من الاجرام.

كل البشر لديه استعداد إجرامي معين فإذا انفلتت الغرائز الأساسية الطبيعية على الغرائز الثانوية أو القوى المانعة فإن الانسان يقدم على ارتكاب الجريمة ، وهذا ما يحيلنا على سؤال آخر لماذا لا يقدم البعض على ارتكاب الجريمة بينما البعض الآخر لا يقدم عليها وهم في نفس المجتمع.

الاستعداد الإجرامي لدى دي توليو نوعان : استعداد إجرامي اصيل و استعداد إجرامي عارض .

الاستعداد الاجرامي الأصيل :

هو ما يدفع إلى ارتكاب الجرائم الخطيرة ، ويتميز بالثبات والاستمرار ويكشف عن ميل فطري غريزي طبيعي نحو الجريمة نظرا لاختلالات وراثية أخلاقية مرتبطة بالتكوين البيولوجي النفسي للمجرم ، فالاختلال التكوين العضوي والنفسي هنا أصيل وليس مكتسبا فهو فطري يولد مع الانسان ويدفعه نحو الجريمة .

الاستعداد الاجرامي العارض :

يتكون لدى المجرم بالصدفة أو يكون مجرما عاطفيا يرتكب الجريمة تحت تأثير المتغيرات الاجتماعية أو الظروف البيئية وهي استعدادات إجرامية مكتسبة وليست فطرية وغالبا ما ترتبط بالهجرة أو الغيرة أو الحب أو الفقر أو الحقد ، هذه الاستعدادات تقلل من قدرة الشخص على ضبط مشاعره وهي سلوكيات تؤثر على القيم الأخلاقية لديه وتقلل من قدرته على ضبط مشاعره وغرائزه فيندفع نحو ارتكاب الجريمة .

فكرة الاستعداد الإجرامي عند دي توليو :

تعبر الجريمة عند دي توليو عن وجود نوع من عدم التوافق الاجتماعي ، ناشئ عن وجود حالة استعداد خاص للجريمة كامنة في شخص المجرم ولم تخرج إلى النور إلا بسبب وجود خلل عضوي ونفسي يضعف من قدرة الشخص على التحكم في ونزعاته وميوله الفطرية ( قوى الدفع للجريمة ) ، ويجعل الشخص أكثر استجابة للمؤثرات الخارجية المحفزة أو المفجرة للسلوك الإجرامي.

 

فالسلوك الإجرامي عند دي توليو شأنه شأن المرض ، فكما أن الناس يتعرضون جميعهم لأنواع عدة من الميكروبات ورغم ذلك لا يصابون جميعهم بالأمراض ، بل لا يصاب بها إلا من ضعفت مقاومته في التصدي لهذه العوارض الخارجية ، وكذلك السلوك الإجرامي ، فلدى الكل استعداد إجرامي نحو الجريمة غير أن البعض فقط هو الذي يدخل إلى طور التنفيذ نتيجة وجود خلل في تكوينهم العضوي  والنفسي يجعلهم أقل قدرة على التكيف مع متطلبات الحياة الاجتماعية وأقل قدرة على كبح جماح غرائزهم الفطرية ، وفي ذات الوقت تقل أو تنعدم لديهم القوى المانعة من الجريمة أو ما يسمى بالغرائز السامية.

فلدى الكافة غرائز أساسية فطرية ، مثل الغريزة الجنسية وغريزة التملك وغريزة القتال والدفاع ، وهذه الغرائز تكون تعبيرا عن " القوة الدافعة للجريمة ".

غير أن تلك الغرائز تتهذب بفعل عناصر مكتسبة منذ مرحلة الطفولة على أثر التعليم والثقافة وتلقين القيم الدينية والأخلاقية.

ويؤدي هذا التهذيب إلى نشوء غرائز ثانوية سامية ، يطلق عليها تعبير " القوة المانعة من الجريمة ".

فإذا التقى الاستعداد الإجرامي بمثير خارجي ، نشأ صراع بين نوعي الغرائز ، فإذا تغلبت الغرائز الأساسية - القوة الدافعة للجريمة - على الغرائز السامية - القوة المانعة للجريمة - أقدم الشخص على ارتكاب السلوك الإجرامي ، والعكس بالعكس. الأمر الذي يفسر لنا علة ارتكاب البعض دون البعض الآخر للسلوك الإجرامي رغم وحدة الظروف البيئية.

أساليب الكشف عن الاستعداد الإجرامي :

إن الكشف عن وجود هذا الاستعداد يستلزم حتما فحص الشخصية الإجرامية من ثلاث نواحي :

أ - الفحص الخارجي : وذلك بفحص أعضاء الجسم الخارجية للشخص للوقوف على ما إذا كانت ذات تكوين طبيعي واستكشاف ما بها من شذوذ .

ب - الفحص الداخلي : يشمل أجهزة الجسم المختلفة  كما يدخل في هذا الجانب فحص الجهاز الغددي  ( خاصة الغدة الدرقية ) ، فلقد ثبت أن الخلل في افرازات الغدد بالنقص أو بالزيادة يؤثر على الحالة النفسية للفرد وبالتالي على مسلكه الشخصي العام .

ج - الفحص النفسي : يهدف الفحص النفسي إلى الكشف عن الحالة النفسية للمجرم والكشف عما يصيب غرائز الفرد وميوله من خلل أو اضطراب .

و قد قسم دي توليو المجرمين إلى طوائف ثلاثة كبرى : المجرم ذي التكوين الإجرامي ، والمجرم المجنون ، والمجرم العرضي .

تقييم نظرية دي توليو :

لقد كان له الفضل في توجيه دراسة سلوك السلوك الإجرامي دراسة تكاملية باعتبارها نتائج عوامل فردية واجتماعية فتجنبت نظريته النظرة الاحادية أو التفسير الأحادي للظاهرة الاجرامية وجهت له انتقادات عديدة تدور حول فكرة الاستعداد الإجرامي فهو يقول إن العوامل الإجتماعية لا يمكن أن تحدث أثرا إجراميا إلا إذا سبقها استعداد إجرامي ، وهذا خطأ كبير لأن بعض الجرائم تقع وإن لم يسبقها استعداد إجرامي مثل جرائم عدم التبليغ عن الجريمة بسبب الاهمال ، هذه النظرية لا تصدق إلا على الجرائم الطبيعية التي تتعارض مع القيم الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية الراسخة في الوجدان الانساني أما الجرائم الاصطناعية فلا يمكن تفسيرها بفكرة الاستعداد الاجرامي لأن الجرائم الاصطناعية هي مخلوق قانوني من صنع المشرع تتغير في الزمان والمكان لذلك لا يمكن القول بأن هناك استعداد قبلي في الجرائم الطبيعية كالقتل والسرقة والاغتصاب.

عوامل السلوك الاجرامي

تنقسم العوامل الإجرامية إلى عوامل داخلية أو فردية (ذاتية)، وأخرى خاری (بيئية).

وأما العوامل الداخلية متمثل مجموع الصفات والخصائص التي ترتبط بالتكوين الطبيعي للمجرم، وتحديدا منها ( الوراثة، النوع، الجنس...).

ويطلق على مجموع هذه الصفات العوامل الداخلية الأصلية ؛

 باعتبارها تتوافر في الشخص منذ ولادته، إلى جانبها توجد العوامل الداخلية المكتسبة أو العارضة، وهي التي يكتسبها الإنسان بعد ولادته ؛ سواء بإرادته أو رغما عنه، ومنها الأمراض العضوية والعقلية التي تصيب الشخص أثناء حياته والإدمان على المخدرات وغيرها.

وأما العوامل الخارجية، فتشمل مجموع الظروف التي ترتبط بوسط المجرم وبيئته التي يعيش فيها، وهي حتما عوامل تؤثر في شخصيته وسلوكه الإجرامي.

ولذلك يصطلح على تسميتها أيضا البيئة الإجرامية  وتنقسم هذه العوامل هي الأخرى إلى عوامل طبيعية وأخرى اجتماعية، وتعود الأولى إلى الظواهر الطبيعية (كالمناخ حالة الطقس، الفيضانات، الزلازل...).

والثانية للعلاقات الإنسانية التي تربط مختلف الأشخاص.

وعليه، سنحاول أن نتناول في الأول العوامل الداخلية وفي الثاني العوامل الخارجية.

العوامل الداخلية أو الفردية للسلوك الاجرامي

سوف نبحث في هذا الفصل أهم العوامل الفردية وهي : الوراثة، السلالة أو العرق ، النوع، السن، الإدمان أو تعاطي المخدرات.

العوامل الداخلية الأصلية

هذه العوامل فطرية في الانسان و منها الوراثة و العرق و النوع.

الوراثة في علم الاجرام

 يراد بها انتقال خصائص معينة من الأصول إلى الفروع في اللحظة التي يتكون فيها الجنين.

هذه الحقيقة التي أثبتتها الملاحظة والتجربة منذ القدم، قبل أن يتمكن العلم الحديث من إثباتها بالدليل العلمي القاطع.

ولعل مرجع ذلك، كما يؤكد علماء الوراثة، خضوع الكائن الحي لقوتين متعارضتين تريد كل منهما أن تصبغه بصبغتها ؛ هما قوة الوراثة ومشابهة الأصل، وقوة التغير والتطور ؛ حيث تسعى القوة الأولى باستمرار، إلى المحافظة على الأصل حتى يصير الفرع امتدادا عبر الزمان للأصل، بينما تسعى القوة الأخرى إلى تغيير شكل الكائن الحي وخصائصه ؛ بحيث تنقطع صلته عن أصله، وهو ما يفسر وجود التشابه بين الأصول والفروع في بعض الخصائص فقط.

والوراثة كما وصفها العالم «گریكور مندل ، هي عملية بالغة التعقيد ، تبدأ منذ لحظة الإخصاب : التي تتم باتحاد الخلية التناسلية الذكرية والخلية الأنثوية واندماجهما، وتكون البويضة الملقحة أو المخصبة لتبدأ بعد عملية الانقسام حتى يتكون الجنين الحي في صورة خلية واحدة ...) .

أما عن كيفية انتقال الصفات من الأصل إلى الفرع، فإن علماء الوراثة بنطاق الخلية ، وهي الوحدة البنيوية الوظيفية الأولية والأساس في بنيان جسم الانسان، باعتبارها أصغر كتلة لمادة حية في جسم الإنسان.

وتنقسم الخلايا في الجسم خلايا جسدية و خلايا جنسية: الحيوانات المنوية والبويضات التي تصنع في الخصيتين والمبيضين.

وتكمن وظيفة الخلايا الجنسية

1) إدامة الحياة بإكثار النوع.

2) نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء

فكل صفة وراثية - عضوية كانت أو نفسية- هي حتما نتيجة تفاعل زوج من العينات، أحدهما مصدره الأب والآخر مصدره الأم.

فإذا كانت هذه متماثلة ؛ بحيث تتفق جينات الأبوين في صفة وراثية معينة ظهرت هذه الصفة أو الخاصية في الأبن حتما.

ما إذا كانت جينات الأبوين متباينة أو مختلفة في خاصية معينة، فإن صراعا ينشأ بينهما ؛ إذ يريد كل جين إبراز الصفة الخاصة بأحد الأبوين وطمس الأخر.

وينتهي الصراع بتفوق أحد الجينين على حساب الآخر ، الذي قد يعود إلى الظهور في فروع لاحقة.

وتصنف الوراثة حسب العلماء إلى عدة أصناف أبرزها : الوراثة المرضية، الوراثة التشويهية، الوراثة المتفاقمة، الوراثة المباشرة وغير المباشرة، الوراثة التشابهية والوراثة التماثلية.

 مدى الصلة بين الوراثة والسلوك الإجرامي

كان لومبروزو على رأس قائمة العلماء الذين ربطوا الجريمة بالوراثة، حيث قرر أن المجرم رجل ورث الصفات الهمجية أو البدائية من أسلافه، وأن هذه الصفات تدفعه بشكل محتوم نحو الجريمة.

وقد قابل الاتجاه الذي تزعمه لومبروزو اتجاه آخر، أنكر أي أثر للوراثة في إحداث السلوك الإجرامي. ويعد عالم الاجتماع الأمريكي سذرلاند من أبرز القائلين بهذا الرأي ؛ حيث رد التشابه الكبير بين خصائص السلف والخلف إلى تأثر كل منهما بظروف بيئية واحدة، دفعت بهم في النهاية إلى المسلك الإجرامي.

ضرب سذرلاند لرأيه مثل استعمال الشوكة والسكين في بعض الأسر لعدة أجيال، فلا تفسر الوراثة في نظره هذا الاستعمال، وإنما يرجع ذلك إلى تأثر الأبناء به ابائهم يستعملونها.

على أن الرأي السليم، هو الذي يحاول الجمع والتوفيق بين النظريتين ؛ فالسلوك الإجرامي لا ينتقل بشكل حتمي بالوراثة، كما أن بيئة وحدها غير قادرة على تفسيره.

فالذي قد يورث هو الاستعداد الإجرامي بما قد يحتويه من إمكانات وقدرات تنقل من الأصل إلى الفرع، والتي قد تدفع إلى ارتكاب الجرائم إذا ما صادفت ظروفا اخرى تتفاعل معها وتزيد من حدتها، أما السلوك الإجرامي فلا يورث .

كما أن فكرة الجريمة فكرة نسبية في حد ذاتها، فما يعد جريمة في مكان و زمان معينين، قد لا يكون كذلك في أمكنة وأزمنة أخرى، ولذلك، فمن غير المنطقي القول إن السلوك الإجرامي يورث، لأن السلوك الإجرامي المنحرف قد يعد جريمة أو لا يعد كذلك باختلاف التشريعات في الزمان والمكان.

النوع : اجرام الرجل واجرام المرأة

هناك فرق بينهما واضح سواء من حيث الكم أو النوع فمن ناحية الكم إجرام الرجل يفوق إجرام المرأة يقدرها البعض ب 10 اضعاف ، يتأثر بعامل السن فيقل مثلا في سن الأربعين ويزيد خلال الحروب ، أما من ناحية الكيف فتؤكد الاحصائيات أن هناك جرائم تكاد تكون حكرا على المرأة كالدعارة و قتل الوليد و تعريض الأطفال للخطر والاجهاض والخيانة الزوجية والقتل عن طريق التسميم ، كما يلاحظ إقدام المرأة على الجرائم المعتمدة على الحيلة أكثر من الجرائم التي تتطلب مجهودا عضليا كالسرقة من المحلات التجارية والزنا والقوادة والنصب وخيانة الأمانة والقتل بالسم بينما تقل لديهن جرام القتل بالعنف والضرب والجرح والسرقة المشددة والجرائم الضارة بالمصلحة العامة التي تعتبر جرائم ذكورية .

اختلاف إجرام الرجل عن اجرام المرأة

فوارق ظاهرية خاضعة ، هناك تبريرات كثيرة ، منها ما هو بيولوجي ، نفسي ، أو اجتماعي ، لكن هناك من قال أن هذا الفارق هو ظاهري يرجع

إلى أن الأجرام الرسمي للمرأة كما تكشف عنه الاحصائيات لا يتطابق مع العدد الفعلي لجرائمها و الاحصائيات الرسمية كما يشير لامبروزو في مؤلفه "المرأة المجرمة والدعارة" أن الميول الاجرامية عند النساء تتجه نحو الدعارة والبغاء مما يدر عليها أموالا لا يستطيع الرجل الحصول عليها إلا بالوسائل غير المشروعة والكثير من الدول لا تعتبر الدعارة جريمة لذلك لو أضيف عدد ممارسات الدعارة إلى قائمة الإجرام عند النساء لربما زاد إجرام المرأة على الرجل ، كما أن هناك العديد من جرائم النساء لا يظهر ويتم في الخفاء كالإجهاض والزنا عكس إجرام الرجل الذي يظهر للعيان في الاحصائيات ، هذه الأخيرة حسب لامبروزو لا تعبر عن الحجم الحقيقي للإجرام عند المرأة وأضاف أن المرأة تقف وراء العديد من الجرائم التي يقوم بها الرجل لتصدق مقولة نابليون الشهيرة إبحث عن المرأة ، فالإحصائيات كشفت أن المرأة وراء 40 في المائة من الخلقية و 20 في المائة من جرائم القتل و 10 في المائة من جرائم السرقة ، وهناك اعتبارات عملية تحول دون النطق بالعقوبة في حق المرأة :

- تودد الرجل للمرأة من تقديم شكاية ضدها إذا كان مجنيا عليه أو يتحمل وحده المسؤولية إذا شاركها الجريمة.

- تساهل أجهزة العدالة مع المرأة بدافع التستر والحفاظ على السمعة .

تفسير صلة النوع بكم ونوع الاجرام

1-    التفسير البيولوجي والنفسي :                                                                                                                                                                                                                                                               

انخفاض إجرام المرأة عن الرجل يرجع إلى التكوين العضوي والنفسي الذي يختلف عن الرجل :

- قوة بدنية أقل من قوة الرجل فهي لا تقدم على جرائم العنف وتتواری وراء الجرائم البسيطة .

- التغيرات الفيزيولوجية التي تتعرض لها بحكم الدورة الشهرية والحمل والولادة والرضاعة قد تدفعها لارتكاب الجريمة لأنه غالبا يصاحبها ميول حادة أنانية عدوانية واضطرابات عصبية وتقلبات مزاجية فالمرأة مثلا في سن اليأس تزيد لديها نوبات القلق والاكتئاب والشذوذ الجنسي والخوف فالإحصائيات تقول أن 41 في المائة من النساء المتهمات ارتكبن جرائم في فترة الحيض وفي فرنسا 63 في المائة من جرائم السرقة عند النساء كانت في فترة الحيض .

2- التفسير الاجتماعي :

 ويذهب الى الاختلاف في المركز الاجتماعي والدور الذي يلعبه كل من الرجل والمرأة في المجتمع ، فالنسبة تميل الى التساوي كلما كان هنالك تقارب المركز الاجتماعي وتتقارب في المدن مقارنة مع الأرياف و في الدول المتقدمة مقارنة مع المتخلفة وفي المجتمعات الصناعية مقارنة مع المجتمعات الزراعية وتزيد في الحروب لأن المرأة تنزل لمعترك الحياة بينما يكون الرجل منهمكا في القتال ، كما يرجع البعض هذا الاختلاف إلى أن البنت خلال التنشئة تحصل على حماية وعناية أكبر من الولد الذي يطلب منه أن يكون قويا ويتحمل المسؤولية وإلا تم نعته بالتخنث ، بينما تبقى البنت في البيت وتتكفل الأسرة بكامل احتياجاتها فتكون هادئة الطبع حسنة الخلق.

والواقع أن جرائم المرأة لا يمكن تفسيرها إلا في ظل المنهج التكاملي أي الجمع بين العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية فكل منها يفسر جزءا من الحقيقة بحيث يصعب الفصل بينهما ، فارتفاع جرائم معينة عند النساء لا يمكن تفسيره إلا في ضوء الاعتبارات النفسية والبيولوجية التي تميز المرأة عن الرجل في حين أن قلة جرائم معينة عند النساء لا يمكن تفسيره إلا من خلال قلة احتكاكها بميدان المعاملات والتجارة.

العرق

حاول بعض علماء الاجرام أمثال سيلين الربط بين الظاهرة الاجرامية وبين السلالة والعرق ، و قالوا أن أعراقا معينة ترتفع فيها الجريمة أكثر من باقي الأعراق ، حيث لاحظوا ارتفاع الجريمة بين السود بينما قل ذلك في عرق اليابانيين ، وقد فسر العالم  بونجوغ هذا التفاوت من خلال دراسة التركيب الاجتماعي فلاحظ قوة وتماسك نظام العائلة في الشرق آسيا بينما لاحظ ضعفه لدى السود الأمريكيين .

تقييم النظرية العرقية :

- لم يعد مقبولا هذا الربط في العصر الحاضر فلا يتصور أن يكون عرق بعينه سببا للجريمة

- الدراسات لم تنصب سوي على عنصر الزنوج فلا يمكن تعميم النتائج

- الدراسات أغفلت العوامل الاقتصادية والاجتماعية وتأثير نظام العدالة الجنائية في المجتمع الأمريكي ، فالعوامل الاقتصادية تتمثل في ارتفاع نسبة الفقر بين السود ثم أنهم يجبرون على السكن في أحياء سكنية يغلب عليها طابع التفكك الاجتماعي أما نظام العدالة الجنائية الأمريكي فيتميز بالمحاباة فبعض الجرائم لا تتم المحاكمة بشأنها إذا كان مرتكبها أسودا ، ثم أن نشاط الشرطة يزداد في مناطق السود والقضاة غالبا يكونون من فئة البيض فيحصل التعسف وتكون العقوبة على عنصر البيض مخففة بينما تصل لحد الاعدام في حق السود كما أن معاملة السود في السجون تكون أدنى من تلك التي يحظى بها العنصر الأبيض ، كل هذا كان لا بد أن يعبئ السود في مواجهة البيض وتصبح الجريمة هي المتنفس الوحيد انتقاما وتعبيرا عن الغضب تجاه أزمة العدالة الجنائية في الولايات المتحدة الأمريكية .

العوامل الداخلية العارضة 

هذه العوامل منها الطبيعية لا يستطيع التحكم فيها كالسن ، وغير طبيعية كالإدمان على المخدرات .

 1 - السن في علم الاجرام

يرتبط الاجرام كما وكيفا باختلاف السن ، ويرجع ذلك إلى اختلاف العوامل الشخصية والاجتماعية طبقا لسن الشخص ، فكل مرحلة خصائص عضوية ونفسية تترك آثارا على كم ونوع الإجرام .

أولا : مرحلة الطفولة ، تمتد حتى سن 12 ، تتميز بقلة الجرائم نظرا لضعف التواصل الاجتماعي و ضعف الاطفال العام كما أن المحاكم لا تعتبر بأي مسؤولية للأطفال في هذا السن .

ثانيا : مرحلة الأحداث ما بين 12-18 سنة ، تحدث تغيرات عضوية ونفسية للحدث ويكون للبيئة الخارجية تأثير على سلوكه فترتفع معدلات الجريمة بين المراهقين خصوصا في السرقة داخل الوسط العائلي لكثرة الرغبات وقلة الإمكانيات ثم جرائم الاعتداء كالضرب والجرح نتيجة نمو القوة البدنية وجرائم المخلة بالآداب كالاغتصاب نتيجة نمو النشاط الجنسي لديهم.

ثالثا : مرحلة الشباب ، 18-25 سنة ، تتميز بانتهاء اعراض المراهقة وازدياد متطلبات بناء المستقبل و قوة في البنية الجسمية و نضج في الغريزة الجنسية وعدم الاكتراث والاندفاع والتهور فترة خطرة تستغرق ما بين ربع وثلث الأجرام الكلي ، وغالبا تكون جرائم بسيطة كالسرقة بالإكراه والاغتصاب و تكون جرائم الإجهاض في ذروتها عن الشابات حيث تكون المرأة في هذا السن أكثر عرضة للحمل ، كما تكثر في هذه السن جرائم غير العمدية كالقتل الخطأ نتيجة قيادة متهورة للسيارة.

رابعا : مرحلة النضج ، 25-50 سنة ، تتسم هذه المرحلة بالاستقرار من حيث العمل والزواج والجرائم الغالبة على هذه المرحلة هي جرائم السرقة وخيانة الأمانة والاختلاس خاصة بين 2535 ثم نجد جرائم النصب في سن 35 فما فوق أما جرائم الاعتداء على الشرف كالسب والشتم فنجدها ما بين 40-50 سنة حيث يكون الشخص ضعيفا بدنيا.

خامسا : مرحلة الشيخوخة ، 50 سنة فما فوق ، تتميز بالضعف في القدرات البيولوجية و تعرض الجسم للأمراض وتخبو الغريزة الجنسية و تضعف القوة الذهنية وتزداد معدلات اليأس وعدم الاستقرار والقلق النفسي وفقدان المهنة والتفكير في تحقيق مطالب العيش والخشية من المرض وابتعاد الأبناء والعزلة الاجتماعية وأغلب جرائم هذه السن ترتبط بالحيلة والذكاء بعيدا عن استخدام القوة البدنية فتكثر جرائم النصب وخيانة الأمانة وانحراف الغريزة الجنسية نحو الأطفال كما أن المرأة يسجل لديها أعلى معدلات الجريمة ما بين 45-55 سنة أي سن اليأس حيث تسوء حالتها النفسية لشعورها بانتهاء مهمتها في الإنجاب وتضيق مواردها بعد تقاعد زوجها وابتعاد أبنائها عنها .

2-  ادمان المخدرات و الخمر في السلوك الاجرامي

يجمع الباحثون على صلة إدمان الخمر والمخدرات وتهيئته للسلوك الاجرامي وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالسلوك الإجرامي 85% القتل ، 75 % الضرب والجرح ، 65% الاغتصاب ، فالخمر له تأثير قوي على التكوين العضوي والنفسي للشخص بحيث يحدث هیجانا في الانفعالات ويثير الدوافع الغريزية وينال من القدرة الذهنية والعقلية ويضعف القدرة على ضبط الانفعالات و يعطي جرأة على الإقدام على ارتكاب الجرائم ، كما أن الخمر ينال من الحالة الاجتماعية فتكون غالبا مفككة وينشأ الأطفال في تربية غير سليمة ، وقد تكون الصلة بين الجريمة والخمر صلة مرتدة حيث ينال من ذريته فقد أثبتت الدراسات أن الأجنة تتأثر بحالة الإدمان التي يكون عليها أحد الأبوين أو كليهما مما تعرض الجنين التشوهات عضوية أو نفسية أو عصبية تدفعه بعد ذلك إلى ارتكاب الجريمة ، فالإدمان يؤدي الى ارتفاع نسبة الكحول في الدم وهي خاصية بيولوجية تنتقل بالوراثة فيميل الأبناء بدورهم الى شرب الخمر وبالتالي يكونون عرضة أكثر من غيرهم لسلوك سبيل الجريمة .

العوامل الخارجية للسلوك الاجرامي

يقصد بها العوامل المحيطة بالشخص وقد قال العلماء قديما أن المرء نتاج بيئته ، غير أن تأثير البيئة على الإنسان هو أمر نسبي من ناحية و تكاملي من ناحية أخرى .

العوامل البيئية الجغرافية للسلوك الاجرامي

يقصد بها العوامل الطبيعية التي تسود منطقة معينة كطبيعة المكان من حيث الصعوبة و الوعورة ودرجة الحرارة وتقلبات الفصول وطول النهار وكمية الأمطار ودرجة الرطوبة وحركة الرياح وطبيعة التربة ، فللمكان تأثير قوي على الإنسان ، ولا شك أن ظاهرة الاجرام تتأثر بطبيعة المكان من ناحية و كثافة السكان من ناحية أخرى وقد اختلف الباحثون حول تفسير العلاقة بين المناخ و الظاهرة الاجرامية .

علاقة البطالة بالظاهرة الاجرامية

هي من مظاهر الركود الاقتصادي وتعني توقف العامل عن عمله وبالتالي حرمانه من مصدر رزقه ، وتترتب آثار سيئة على البطالة خصوصا بعد التوقف عن العمل لمدة طويلة وخاصة عندما يكون العاطل رب اسرة فيصبح عاجزا عن الوفاء بالتزاماته فيساوره القلق والخوف على مستقبله ومستقبل أسرته مما يدفعه الى ارتكاب الجرائم ، أما على صعيد الاسرة غالبا ما يؤدي ذلك إلى تصدع الأسرة بسبب ما يقع من خلاف بين الزوجين بسبب البطالة و سلطة الأب على أبنائه مما قد يدفعهم للتشرد والضياع والانحراف .

العوامل الثقافية للسلوك الاجرامي

هي مجموع القيم الخلقية والروحية والدينية التي يقوم عليها المجتمع ، وقد ربط الباحثون في علم الأجرام بين بعض العوامل الثقافية و الظاهرة الاجرامية فهي قد تؤثر سلبا أو ايجابا .

 أبرز هذه العوامل التعليم والدين ووسائل الإعلام

نظرية تنازع الثقافات لدى سيلين :

نشر تورستين سيلين كتابا سنة 1938 عنوانه تنازع الثقافة والجريمة أكد فيه على دور تنازع الثقافات في تكوين الاجرام ، فالجريمة من وجهة نظره تحدث في المجتمع الوحيد بين قواعد السلوك المختلفة ، يظهر هذا بجلاء في المجتمع الأمريكي ومع ذلك يرى سيلين أن مفهوم تنازع الثقافات لا يكفي بمفرده لتفسير الظاهرة الاجرامية بل ينبغي أن ينظر للأمر من داخل مجموعة متكاملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع ككل.

وقد فسر كوهين هذه النظرية بما سماه الثقافات المتدنية الاجرامية فقال أن الانحراف وانعدام التنظيم الاجتماعي يظهران في أدنى السلم الاجتماعي لدى الفئات العمالية البسيطة التي تستجيب الله أكثر من غيرها ويستدل على ذلك بمستوى الجريمة العالي في هذه الأوساط خصوصا في المدن الكبرى هكذا يرى كوهين أن اضطراد الأجرام في هذه الأوساط يفسر لنا ما يفرزه هؤلاء من ثقافات متدنية إجرامية .

وإذا كان أنصار هذه الفكرة يتفقون على فكرة الثقافة المتدنية الاجرامية لكننا نجد الآراء تختلف عندما يتعلق الأمر بتحديد مصدر ونماذج هذه الثقافات الدنيا ، في كوهين نفسه يفسر تكوين هذه الثقافات بوجود مجموعة من الأفراد داخل نفس الوسط العمالي الذي يعيش حياة بائسة متدنية غير ملائمة تعاني أكثر من غيرها من مشاكل التكيف الاجتماعي ، عدم التكيف هذا يؤدي بها إلى

الاندفاع الى الاجرام ، ويرى بعض أنصار هذه النظرية أن الثقافة المتدنية هي ثقافة مقتصرة على الطبقة العمالية بينما يرى غيرهم أن مصدرها يكمن في الخصائص الفردية لطائفة من الشباب داخل الطبقة العمالية وأن مصدرها هو انعدام الفرص للانتقال المشروع إلى الثقافة الغالبة في الجماعة.

التعليم والسلوك الإجرامي

لا نقصد بالتعليم في مجال الدراسات الاجرامية مجرد تلقين مجموعة من المعلومات عن طريق الكتابة والقراءة أو ما يسمى عملية محو الامية ، بل نقصد بها مجمل عملية التعليم بما تشمله من تهذيب وتلقين وتربية على القيم الأخلاقية والدينية وخلق روح التعاون بين أفراد المجتمع . وساد الاعتقاد أن التعليم يترتب عنه انخفاض مستوى الجريمة فقال فيكتور هيجو " أن فتح مدرسة يعادل إغلاق سجن " فالتعليم عامل مضاد للجريمة لما يبثه في النفوس من قيم ومعارف ودعم للقدرة على مواجهة الصعاب ومعرفة الحقوق و الواجبات و يبعد عن الناس الخرافة والاعتقادات الفاسدة كما أن التعليم ينمي المواهب والقدرات والخبرات ويدفعها نحو الاعمال الايجابية مقويا بذلك الفرص من أجل الحصول عمل شريف ويتخطى الفرد بذلك عوامل الفقر والبطالة والتشرد و آثارها السيئة ، وهو الأمر الذي أكدته عدة دراسات في هذا الميدان فمعظم السجناء في المؤسسات السجنية تجدهم حاصلين على مستويات دراسية ضعيفة ، وهذا لا يغير من حقيقة أن فساد أساليب التعليم واقتصارها على تلقين المعلومة دون غرس القيم والأخلاق لا يمكن أن يؤدي إلى تراجع الجريمة فدراسة أجريت في فرنسا ما بين 1851 و 1930 دلت على عدم انخفاض معدل الجريمة رغم أن الأمية انخفضت بنسبة 90 %.

هكذا قالت المدرسة الوضعية بأن التعليم لا يمكنه أن يستأصل الاجرام فهو ثمرة تكوين إجرامي عضوي نفسي موروث بل يمكن للتعليم أن يمد المجرم بوسائل تقنية وخبرات أكثر يستعين بها على سلوكه الاجرامي ، هذا السبب ما دفع لامبروزو الى معارضة فكرة التعليم داخل المؤسسات العقابية.

لكن تبقى الحقيقة أن مستوى التعليم يحد من الجريمة ولا يمكن أن نوقف عجلة التعليم خوفا من مجرم أكثر تعلما والعوامل البيولوجية وحدها لا تكفي وحدها لخلق الجريمة بل يجب أن تصادفها عوامل اجتماعية محفزة كما أن الأخذ بهذا الرأي سيقعد الباحثين في مجال الإجرام والعقاب عن تلمس أسباب مكافحة الجريمة طالما أن الجريمة أمر حتمي لا مفر منه رغم ارتفاع مستوى التعليم الفردي والعام.

نجد أنفسنا أذن أمام حقيقة أن التعليم والجريمة ليست بينهما صلة حتمية فلا الجهل يوقف الاجرام وكم من الشرفاء أميون ، ولا العلم ينأى بالأفراد عن الجريمة فكم من المجرمين هم خريجو المعاهد العليا والجامعات.

فالتعليم قد يقي من ارتكاب السلوك الاجرامي حيث أنه يبصر الفرد بحقوقه والتزاماته ويعلمه كيف يحل مشاكله بالحكمة والعقل فيجنبه بذلك سبل الطرق غير المشروعة للحصول على حلول لمشاكله ، لكنه أحيانا قد يدفع إلى ارتكابه ، فالشخص ذو الميل الإجرامي الموروث أو الفطري فيحاول أن يستعين بمكتسباته العلمية لتوظيفها في سلوكاته الإجرامية مثال ذلك ما نجده من جرائم المعلوميات والسرقة غير التقليدية على الشبكات العنكبوتية ، كما نجد أن الشخص المتعلم يرتكب جرائم غالبا ما تكون معتمدة على الحيلة والخداع كالنصب واعطاء شيك بدون رصيد والتهرب الضريبي وتزييف العملات وغير ذلك من الجرائم التي لا يستطيع الأميون إليها سبيلا حيث تعتمد جرائمهم على القوة العضلية والعنف والسرقة التقليدية وترجع بالأساس ليس الى الأمية بل الى ارتباط الأمية بعامل آخر كعاهة في العقل أو مرض نفسي أو تصدع أسري ، فيمكن القول أن الامية والاجرام نتيجتان لعامل واحد.

الدين والسلوك الاجرامي

الدين مجموعة معتقدات ترتبط بالألوهية وكيفية عبادة الإله وهي مجموعة من قواعد تنظم السلوك الاجتماعي للفرد والمجتمع .

وينبغي الحذر كثيرا عند دراسة الدين وعلاقته بالسلوك الإجرامي ولا يجب أن تتأثر النتائج بالمعتقدات الدينية للباحث كما لا يجب الخلط بين الدين والديانة التي تعني انتماء الى دين معين وممارسة شعائره، فالدين بصفة عامة يحض على تهذيب النفوس وتزكيتها وحب الخير للناس والتمسك بالقيم الأخلاقية العالية والمثل السامية والترابط بين بني البشر والحيلولة دون السقوط في مهاوي الخطيئة ، فالدين هو المضاد الحيوي المانع من تحريك عوامل الاجرام ، هكذا قال غابرييل تارد أخشى مع تراجع دور الدين أن ينضب المعين الذي تستقي منه الأجيال الجديدة ما يعينها على مقاومة الميول الاجرامي.

هذا الدور الوقائي الذي يلعبه الدين ينتج أثره كلما تداخلت دائرة الدين مع دائرة القانون دون أن تتعارض الدائرتان بحيث يصبح القانون الجنائي صورة معبرة عن ضمير المجتمع ويكون الباعث من وراء الالتزام بأحكامه هو التمسك بما يدعو إليه الدين من فضائل.

لكن قد يكون الدين عاملا من عوامل الاجرام وذلك في حالتين الأولى عندما يتعارض الدين مع القانون الجنائي والثانية عند وجود فهم خاطئ للدين ، ففي حالة تعارض الدين والقانون يجد الفرد نفسه أمام قاعدتين قانونيتين ، فيختار أيهما يخرق ، فبعض الدول مثلا تعتبر تعدد ازواج جريمة والدعارة ليست جريمة ، والباحث في علم الإجرام يجب أن لا يهتم بحالة التعارض بين الدين والقانون ، فلا يهمه سوى المفهوم القانوني للجريمة بما أنه رجل قانون دون أن يهتم بالمفهوم الأخلاقي فكثيرا ما يجيز القانون الجنائي الخاص أمورا تعتبر لا أخلاقية من قبيل رفع التجريم عن الزنا واللواط والشذوذ الجنسي والإجهاض والخمور.

كما أن الفهم الخاطئ للدين قد يكون سببا وراء ارتكاب الجريمة ، فالواقع أن الدين لا يمكن أن يدعو الى الاجرام ، والدراسات أكدت أن الاجرام من طرف دينية على طائفة أخرى لا يمكن فهمها إلا بالرجوع الى الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي مر منها أعضاء الطائفة وليس بسبب انتمائهم الديني في حد ذاته ، فالدراسة أكدت ارتفاع معدل الجريمة لدى الكاثوليك مقارنة مع البروتستانت وانخفاضه لدى اليهود ، لكن هذا لا يعود الى تعاليم الدين بل لأن البروتستانت يحتلون مراکز اقتصادية واجتماعية عليا داخل البلدان الأوروبية كما أن المذهب البروتستانتي ينتشر في أوروبا الشمالية حيث تتميز هذه المناطق بالنشاط والإقبال على العمل والقدرة على ضبط النفس مما يجعلهم أقل عرضة للجريمة من المناطق الجنوبية ذات الأغلبية الكاثوليكية ، أما انخفاض معدل الجريمة بين اليهود فراجع إلى الطابع العنصري لديهم والتنظيم العائلي الصارم فضلا عن احساسهم بكونهم أقلية فيضرون الى احترام قوانين البلدان الذين يعيشون فيها ولا يخالفون القوانين حرصا على كيانهم وصورتهم أمام المجتمع الذي يعيشون فيه.

وسائل الإعلام والسلوك الاجرامي

هي أساليب الاتصال والاخبار التي تصل الأفراد ببعضهم وتساهم في نشر الثقافة وتنمية المعارف والاحاطة بالمشاكل داخليا وعالميا ، ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها تساهم في التقارب بين الدول حتى صار العالم قرية صغيرة ويمكن أن نتصور أن لوسائل الإعلام دورا ايجابيا وأخر سلبيا في علاقتها بالسلوك الاجرامي. الدور الإيجابي : الكشف على الجرائم ، تعقب المجرمين ، نشر اخبار المجرمين يثير الضغط نحو المطالبة بتحقيق العدالة ، دور وقائي من خلال التحذير من جرائم معينة كالاحتيال والنصب ثم من خلال تهدئة الميول الإجرامية فسماع أخبار الجريمة يعد متنفسا للرغبات الإجرامية المكبوتة لدى الأفراد، كما أن نشر سوء العاقبة الذي ينتظر المجرم يساهم في تحقيق الردع العام وهو بديل عن علانية المحاكمات الجنائية ويتأكد للأفراد حسن سير مرفق القضاء وإدارة العدالة الجنائية.

الدور السلبي : زيادة معدل السلوك الاجرامي خاصة لدى المراهقين والشواذ ، التقليد والتفاخر بالجريمة ومخالفة القواعد القانونية ومحاولة تأكيد الذات ، تكرار أخبار الجريمة يسهل من ارتكاب الجريمة فتصبح شيئا عاديا ، خلق اللامبالاة لدى الجمهور والرأي العام فيتعود على الجريمة ولا تثير أي سخط اجتماعي ، المس بقرينة البراءة عن طريق الأحكام المسبقة والضغط على القضاء ، مشاهد العنف تنال من القوة النفسية للمتلقي فتدفع الى ارتكاب جريمة مشابهة ، تقليد المراهقين للأبطال في طريقة الانتقام.

العوامل التكاملية للظاهرة الاجرامية

يؤكد علماء الاجرام المعاصرين أن الاجرام لا يمكن نسبه الى عامل واحد فقط ، بل له عوامل متعددة ، لذلك أخفقت المدارس السابقة في اعطاء تفسير متكامل للظاهرة الاجرامية لأنها ركزت على عامل وحيد لكن كان لكل اتجاه الفضل في توجيه الأنظار إلى أهمية عامل من العوامل ، من هنا جاءت النظريات التكاملية في تفسير الظاهرة الاجرامية حيث لا تغلب عاملا على أخر وأهم هذه النظريات هي المحاولة التأصيلية التي قام بها العالم الإيطالي فيري عندما صاغ نظريته التكاملية في تفسير الظاهرة الاجرامية.

مضمون نظرية انريكو فيري

الفكرة الأساسية في نظرية فيري هي حتمية السلوك الاجرامي ، لكنها حتمية لا ترجع إلى عامل واحد بل تتعدد عواملها ، في فيري يرى أن المجرم يتحدد نشاطه الإجرامي بمجموعة من العوامل الاجرامية ، وهي تختلف باختلاف المجرمين ، من هنا جاء تصنيفه للمجرمين ، فالجريمة على

هذا النحو هي ثمرة حتمية لعوامل معينة وإن اختلف تأثير هذه العوامل في التفاعل المفضي الى الجريمة من مجرم الى آخر.

قدم فيري قائمة بالعوامل المختلفة التي تفضي الى ارتكاب الجريمة من ناحية ثم قسم المجرمين الى طوائف بحسب درجة تأثير هذه العوامل فيهم من ناحية أخرى .

تحديد العوامل الاجرامية

بدأ فيري بفكرة سبقه بها آخرون وهي الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل الوسط الملائم للإجرام ، لكن فيري تساءل بعد ذلك عن سبب استجابة فرد معين لهذه الظروف المهيئة دون غيره من أفراد المجتمع ورأى فيري أن الاجابة على هذا السؤال هي المسألة الأساسية في علم الاجرام ، فجميع الأفراد يخضعون لنفس الظروف الخارجية فكيف يمكن تبرير الانحراف إلى طريق الجريمة ؟ هذا السؤال في حد ذاته نقد للمدارس التي تحصر أسباب الجريمة في العوامل الخارجية إذ أن منطقها كان لا بد أن يؤدي الى تحول كل أفراد المجتمع الى مجرمين ، الاجابة على هذا السؤال دفعت فيري الى القول أن الجريمة ظاهرة معقدة لها جذور متعددة وهو ما قاده الى ارجاع الجريمة الى جذورها الحقيقية أي إلى العوامل الاجرامية ، وفي هذا الصدد قرر فيري أن الجريمة ترجع إلى ثلاثة أنواع من العوامل :

1 - العوامل الأنثروبولوجية المتعلقة بشخص المجرم ، وتسمى العوامل الداخلية وقد وزعها فيري الى ثلاثة أنواع :

* العوامل الداخلية المتعلقة بالتكوين العضوي للمجرم.

* العوامل الداخلية المتعلقة بالتكوين النفسي للمجرم .

* الخصائص الشخصية للمجرم مثالها الجنس السن الذكاء .

2 - العوامل الطبيعية أو الخاصة بالبيئة الطبيعية أو الجغرافية كالظروف الجوية المناخية التربة الإنتاج الزراعي ..

3- العوامل الاجتماعية المتعلقة بالوسط الاجتماعي وهي عوامل خارجية تنشأ من البيئة التي يعيش فيها المجرم فيركز فيري على مدى التركيز السكاني و التكوين الأسري ونظام التعليم والإنتاج الصناعي والدين والرأي العام وتعاطي المخدرات والتنظيم الاقتصادي والسياسي.

يرى فيري أن الجريمة تنتج بالنسبة لشخص ما جراء تفاعل ما بين هذه العوامل ، وهو تفاعل تختلف نسبته باختلاف المجرمين ، والعوامل الثلاثة التي ذكرها فيري ينشأ منها في المجتمع ما سماه بقانون الكثافة الاجرامية ، وهو مشابه لقانون الكثافة في عالم الكيمياء ، و مؤداه أن اقتران ظروف اجتماعية وطبيعية بعوامل شخصية خاصة ببعض الأفراد في مجتمع معين من شأنه أن يسبب تفاعلا بين هذه العوامل ثم يفرز لنا عددا ثابتا من الجرائم حتى يصل الى درجة التشبع بالإجرام كما يتشبع السائل بقدر معين من مادة كيماوية أذيبت فيه بحيث لا يذوب أكثر أو أقل من ذلك القدر ، لكن نسبة مساهمة العوامل الإجرامية المفضية إلى الإجرام تختلف باختلاف المجرمين ومن ثم كان تصنيفه للمجرمين .

انواع المجرمين :

تصنيف المجرمين عند فيري يعتمد على خمس طوائف :

الطائفة 1 : المجرم بالميلاد ، وهم أولئك الذين يتميزون بخصائص النموذج الاجرامي الذي قال به لومبروزو ، ومع ذلك فالحتمية الإجرامية لدى هؤلاء لا تعني القدرية ، أي أن الاجرام بالنسبة إليهم لا يعني قدرا مقدرا لا فكاك منه ، فالمجرم بالميلاد هناك عوامل اجتماعية تؤدي به الى الاجرام وفي هذا التحفظ نرى عدم تسليم فيري بفكرة المجرم بالميلاد على إطلاقها كما جاء بها لامبروزو فهو يرفضها من حيث المبدأ ولكن يعدل من مضمونها لكي تتسق مع نظرته عن تعدد العوامل المفضية الى الجريمة.

الطائفة 2 : المجرمين ذوي العاهات العقلية وهم يختلفون عن المجرم بالميلاد الذي لا تميزه اضطرابات عقلية خاصة، ويرجع إجرام هذه الطائفة الى شذوذ عقلي بالغ الخطورة لكن فيري مع ذلك لا يرى أن جميع المصابين بعاهات عقلية مجرمين فالخلل العقلي لديهم جميعا لكنهم لا يتحولون جميعهم الى مجرمين ، واقترح فيري على الطائفتين السابقتين معاملة خاصة تقوم على تفريد الجزاء الجنائي القائم على تحييد هذا النوع من المجرمين . الأنواع الثلاثة التالية تحركهم عوامل خارجية وهم :

الطائفة 3 : المجرم المعتاد ، تعودوا على الإجرام حتى صاروا ضالعين فيه بسبب الظروف الاجتماعية غير الملائمة التي أحاطت بحياتهم منذ البداية ، و فيري لا ينفي عنهم العوامل البيولوجية فهو يرى أن الظروف الاجتماعية مهما كانت قاسية لا تقود إلى الاجرام إلا إذا اقترن بها ضعف تكويني أو مكتسب لدى الفرد.

الطائفة 4 : المجرم بالصدفة ، وهي الطائفة الأكثر انتشارا بين المجرمين ، وهم أفراد انزلقوا الى الاجرام بسبب الضغط الشديد للظروف الاجتماعية غير الملائمة، هذه الظروف كان لها تأثير حاسم عليهم فبسبب تكوينهم البيولوجي الذي تنقصه القدرة على المقاومة لحظة الاختيار الوقتی فتنهار المناعة.

الطائفة 5 : المجرم العاطفي، وهم قوم يتميزون بإفراط في الحساسية ، وقد رق قلب فيري لهم ، ويفسر فيري إجرام هذه الطائفة بفعل عوامل عارضة كان لها تأثير على كائن مفرط في الحساسية مرهف الحس ، وهم أقل طوائف المجرمين عددا.

هذه الطوائف الثلاثة الأخيرة يرى فيري أن السياسة الجنائية السليمة تفرض النظر إلى هذه العوامل لكي تكون موجها لنوع المعاملة التي يخصصها القانون لكل طائفة بغية القضاء على إجرامها ، وقد استخلص فيري من تحليله لخصائص كل طائفة وللعوامل المؤثرة في إجرامها أنه ينبغي تحييد المجرمين المعتادين لحماية المجتمع منهم ، أما المجرمون بالمصادفة في الجزاء الذي يتخذ في مواجهتهم يجب أن يتضمن إجراءات تهدف الى اعادة تأهيلهم اجتماعيا أما بخصوص المجرمين بالعاطفة فقد أوصى فيري بأن يتخذ الجزاء في حقهم قدرا كبيرا من التسامح فيقتصر الجزاء في تعويض الضرر الذي تسببه جرائمهم.

تقدير نظرية فيري

كان لنظرية فيري التأثير القوي على مفهوم الجزاء الجنائي ، فوجهت الأنظار إلى ضرورة اعتبار الجزاء وسيلة للدفاع عن المجتمع ضد الجريمة ، وليس ثمنا يدفعه المجرم لما اقترفه من إثم ، كما كانت نظريته بداية للحديث عن ضرورات التفريد الجزائي تبعا لحالة كل مجرم وظروفه الخاصة، ومن ثم كان ظهور التدابير الوقائية والاحترازية كصورة للجزاء الجنائي ، إلى جانب العقوبات باعتبارها الصورة التقليدية لبعض المجرمين ، من جهة أخرى كان تحليل فيري للعوامل الاجرامية بمثابة تنبيه إلى ضرورة العناية بالوقاية من الاجرام عن طريق الحد من أثر هذه العوامل التي ذكرها ، وهو ما يعني ضرورة انتهاج سياسة اجتماعية واقتصادية وصحية وتربوية وثقافية تحد من فعالية العوامل المفضية الى الاجرام ، وقد أطلق فيري عليها اسم البدائل العقابية ورغم ما تتميز به نظرية فيري من مزايا واضحة لا يمكن إنكارها إلا أنه يمكن توجيه بعض الملاحظات :

- تصنيفه للعوامل الإجرامية تنقصه الدقة ، فهو اعتبر الإنتاج الزراعي عاملا من العوامل الطبيعية أو الجغرافية في حين رأى الانتاج الصناعي أنه أخذ العوامل التي تتعلق بالبيئة أو المحيط الاجتماعي .

- اعترض البعض على تصنيف فيري للمجرمين وشمل الاعتراض فكرة المجرم بالميلاد التي كانت أكثر أفكار لومبروزو تعرضا للانتقاد ، ومع ذلك اعتقد فيري أنه بضبطها قد يتفادى النقد .

- تساءل البعض عن ملائمة التمييز بين المجرم بالمصادفة والمجرم العاطفي ومن ثم ضرورة إفراد كل طائفة خاصة لكل منهما ، ففي تقدير الكثير أن المجرم بالمصادفة مثله في ذلك مثل المجرم العاطفي ، فكلاهما مجرم عرضي انزلق الى الاجرام بفعل عامل خارجي وقتي دفعه بقوة الى الاجرام ، فلا يوجد أي معالم واضحة للتمييز بين النموذجين لذلك اقترح بعض الباحثين تقسيم المجرمين الى 3 طوائف فقط ، المجانين و ذوي العاهات العقلية ثم المجرمين العرضيين ، وأخيرا طائفة المجرمين المعتادين على الاجرام.

- الجريمة أكثر تعقيدا من مجرد تفاعل كيميائي كما تصوره فيري.

يبقى أن فيري كان اول من أشار الى أن السلوك الاجرامي ليس ظاهرة وحيدة السبب بل هو ظاهرة معقدة تتشابك فيها عوامل متعددة ومتشعبة وهو يعد بذلك صاحب أول نظرية تكاملية في تفسير الظاهرة الاجرامية ، وقد تنبه من جاء بعده إلى هذه التعددية في العوامل المسببة للجريمة فكانت تفسيراتهم أكثر قربا من الواقع والحقيقة ، كما لا يجب أن ننسى أن فيري وإن لم يبتدع تعبير السياسة الجنائية إلا أنه كان رائدا في وضع المحاور الأساسية التي تقوم عليها فنظريته الشمولية إلى العوامل المتعددة للظاهرة الاجرامية أدت إلى إدراك ضرورة تفريد رد فعل المجتمع وفقا لتنوع المجرمين ، وهكذا نرى أن تفريد الجزاء الجنائي وهو عصب السياسية الجنائية الحديثة لم يكن سوى أحد ثمار التصور التعددي للعوامل الاجرامية المؤدية إلى السلوك الإجرامي.

reaction:

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. من هو الكاتب لهذا الكتاب يرجى الرد

    ردحذف
  2. غير معرف20:52

    كتاب اي دولة هاذا؟

    ردحذف

إرسال تعليق